عبقرى العسكرية الذى استشهد على خطوط القتال
«سيدى الفريق.. ما فتحنا للحديث موضوعاً إلا وجدناك بحراً فيه»
هكذا تحدث ضابط عراقى كبير إلى الفريق عبدالمنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية، أثناء عشاء أقيم له فى «كازينو كسرى» بالعاصمة العراقية بغداد مساء 6 مارس 1970، وبعد انتهاء مباحثاته التى استمرت من يوم 3 مارس فى رئاسة الأركان العراقية، لبحث دعم الجبهة الشرقية فى معركة تحرير الأرض التى احتلتها إسرائيل فى نكسة 5 يونيو 1967، وكان الجيش المصرى يستعد لهذه المعركة استعدادًا هائلاً.
كلمات الضابط العراقى جاءت أثناء شدو «أم كلثوم» بقصيدة «الأطلال»، تأليف الشاعر إبراهيم ناجى، وألحان رياض السنباطى، وكان صوتها ينطلق من الراديو فى «كازينو كسرى»، وتوقف رياض أمام مقطع: «واثق الخطوة يمشى ملكا/ ظالم الحسن.. شهى الكبرياء/ عبق السحر كأنفاس الربى/ ساهم الطرف كأحلام المساء»، ليقول: «قرأت كثيرًا من الشعر قديمه ومعاصره، ولم أتذوق فى أشعار الغزل أحلى من هذين البيتين، تأملوا: حسن الحبيب عندما يطغى لدرجة الظلم»، وقارن «رياض» بين أشعار أحمد رامى وأشعار إبراهيم ناجى فى الغزل والحب، ثم عاد إلى الشعر العربى القديم فى هذا المجال مقارنًا فيه بين الغزل العفيف والغزل الصريح.
قصة رياض فى «كازينو كسرى» ببغداد تأتى فى كتاب «نسر مصر- عبدالمنعم رياض- حيًّا وشهيدًا» تأليف عبدالتواب عبدالحى الصادر عن «دار الهلال»، وتكشف جانبًا آخر من شخصية هذا القائد الفريد فى تاريخ العسكرية المصرية والعالمية، الذى استشهد فى مثل هذا اليوم «9 مارس 1969»، فبينما تجلت براعته طوال أربعة أيام قضاها فى العراق مع قادة الجيش العراقى متحدثًا عن الخطط العسكرية، حرضه نسيم ليل بغداد على الحديث عن الحب والغزل فى الشعر العربى ليؤكد على موسوعته الثقافية، تلك الموسوعة التى كان من مظاهرها الأخرى هوايته فى «جمع اللغات»، وكان يتحدث الإنجليزية والفرنسية بطلاقة، ويجيد الألمانية والروسية، ويلم بدرجة معقولة بالإسبانية والإيطالية واليوغسلافية.
موسوعته الثقافية كانت أرضية صلبة لشخصيته العسكرية الفذة، وكما يقول «محمود عوض» فى كتابه «اليوم السابع- الحرب المستحيلة- حرب الاستنزاف»: «لم يكن ضابطًا عاديًّا منذ بدايته، كان عاشقًا للعسكرية المصرية، مؤمنًا بأنه لا حياة لمصر بغير جيش قوى يحميها، والجيش القوى الذى يستعد لحرب قادمة وليس لحرب سابقة، يعنى التبحر فى العلم العسكرى، يعنى أن يصبح القائد قدوة بسلوكه وليس بكلماته».
اختاره جمال عبدالناصر رئيسًا لأركان الجيش بعد نكسة 5 يونيو 1967، واختار الفريق محمد فوزى ليكون وزيرًا للحربية، وقاد الاثنان عملية إعادة بناء الجيش لخوض معركة تحرير الأرض، وكان اختيار «رياض» هو اختيار القائد الميدانى للجيش فى المعركة المقبلة، وفى قول محمود عوض عنه: «لا يقول لجنوده تقدموا وإنما يقول لهم اتبعونى»، سنجد تطبيقًا عمليًّا لهذا الوصف فى قصة استشهاده يوم 9 مارس 1969.
كان فى زيارة إلى الجبهة الأمامية، وفى الساعة الثالثة و20 دقيقة عصرا، وبينما هو يتفقد جنوده فى مواقعها العسكرية أطلقت إسرائيل دانات وقنابل، فأصيب، وأصيب الضابط المرافق له الذى قال له: «أنا انصبت يا فندم» فرد رياض: «وأنا كمان، إنما بسيطة، اجمد»، وبعد خمس دقائق عاد الضابط لسؤاله: «ازاى الحال دلوقتى يا فندم؟» لكن الضابط لم يتلق ردا، فالقائد العظيم استشهد. استشهاد عبدالمنعم رياض ضرب مثلا فريدا فى تاريخ العسكرية، فقائد الجيش فى الخطوط الأمامية وبين جنوده، لا يهاب الموت، ولهذا مشى فى جنازته نحو مليون مصرى خرجوا وراء بطلهم من مسجد عمر مكرم، ومعهم قادة الجيوش العربية، وكان جمال عبدالناصر على رأس الجنازة وذاب وسط الناس فور تحركها، مرددا معهم الهتافات: «رياض، رياض» و«الثأر، الثأر».