حتى الموت لم يعد ذا جلال، كذلك لم يعد للموتى «حرمة» فكل شىء يباع ها هنا، وكل شىء فى مزاد معلن وصريح، «ألاأونا.. ألاديو.. ألا ترى» فتح المزاد والجميع فى المعروضات، رأس أبيك، صدر أمك، تراث جدودك، كل شىء يباع ها هنا، فى بنى سويف، بأمر مافيا العشوائيات، وأباطرة الكسب الحرام، ينقبون على الآثار، يدكون عظام الموتى، يلقون بالجثث فى الشوارع، يطحنون ما تبقى من بقايا آدمية، يمارسون الرزيلة، يتعاطون المخدرات، الكل يباع ويشترى، والدولة تتنازل عن دولتها وتفقد سيادتها على أرضها وتاريخها وحضارتها وحرماتها.
فى التحقيق الذى نشرته «اليوم السابع» كامل الألم وكامل الغصة، لم يقتصر الأمر على التفتيش العشوائى عن الآثار فحسب فى مقابر اللاهون، لكنه تعدى هذا الجرم الجنائى إلى جرم آخر «إنسانى» فالبلطجية صاروا يتعدون على الموتى ويهدمون المقابر ويلقون الجثث فى الشوارع لبناء منازل والبحث عن آثار، إذ يقول الزميل هانى فتحى فى التحقيق الميدانى الذى أجراه، إن جماجم موتى ملقاة فى طرقات الشوارع، وأطلال مقابر لم يبق منها سوى هياكل بسيطة، بقايا «أعقاب» سجائر داخل المقابر الخالية تدل على استخدام تلك المقابر كجلسات لشرب المخدرات، ورائحة المياه العفنة تغمر المكان، كل هذا يتم فى مقابر قرية هرم ميدوم التابعة لمركز الواسطى شمال محافظة بنى سويف، وهناك يتجلى المشهد المأساوى للمواطنين الذين يبحثون عن بقايا موتاهم فيجدونها ملقاة فى الشوارع فيصرخوا «انقذوا حرمات موتانا».
تتضافر الحكايات وتتشابك، لكنها كلها تصب فى معنى واحد هو أن البحث عن الآثار مازال يجرى فى هذا المكان التاريخى الكبير، وفى حالة عدم وجود آثار يتاجر البلطجية فى الأراضى التى يضعون يدهم عليها دون وجه حق، وتستغل بعض المحاجر هذه المقابر كطريق مختصر تصل من خلاله إلى أماكنها، وهو ما يؤكد أن العشوائية مازالت تحكمنا وأن قبضة الدولة مازالت تعانى من ارتخاء فى المفاصل واضطراب فى الأعصاب، وطبيعى فى وضع كهذا أن تشتعل المعارك بين الأهالى وبعضهم البعض فى غيبة «الكبير» أى الحكومة، وطبيعى أيضا أن يطمع كل واحد فى الحصول على نصيب من هذه التركة الحرام، وطبيعى أن يعلم «المال السائب» الشرفاء السرقة، ثم نفاجأ بأن نجد أنفسنا وقد صنعنا جيلا جديدا من السارقين والنهابين، لا لشىء إلا لأننا لم نقم العدل ولم نرفع راية القصاص من كل من يريد نهب مصر.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة