تحولات كبيرة ومتسارعة تحدث فى صناعة التليفزيون فى مصر، أهمها هيمنة القنوات الخاصة والعربية على النسبة الكبرى من المشاهدة والإعلان، وتراجع تليفزيون الدولة الذى أصبح غير قادر على التجديد والمنافسة، وعاد لينًا مطيعًا للحكومة لا يناقش بعمق أو يجرؤ على الانتقاد، تمامًا كالقنوات الخاصة والمصرخليجية، التى باعت السياسة وبرامج التوك شو الجادة أو النقدية لصالح برامج التسلية والمضامين السطحية، التى تهدف إلى كسب المعلنين ومساعدة الجمهور على تمضية الوقت فى سعادة زائفة بعيدًا عن مشكلات الحياة والمعاناة اليومية من ارتفاع الأسعار، وتدهور الخدمات، وارتفاع معدلات البطالة، والعنوسة، وتراجع الثقة فى المستقبل.
واختفى عديد من البرامج الجادة ونجوم الشاشات لأسباب مختلفة، وظهر غيرهم ممن لا يعرفون الحد الأدنى من مهارات تقديم البرامج ومناقشة الضيوف، لكنهم أكثر كفاءة فى الدفاع عن الحكومة (أى حكومة) وتشويه المعارضين وانتهاك القواعد المهنية والأخلاقية للإعلام، والأهم انشغال الجمهور بقضايا سطحية لا تبنى وعيًا أو تعيش لأكثر من ساعات.
واختفى أيضًا نشطاء الثورة الذين تحولوا بقدرة قادر إلى مذيعين ومقدمى برامج سياسية «حنجورية» لا معنى لها، وتحول بعض مقدمى البرامج المتميزين إلى برامج التسلية والحوارات اللطيفة البعيدة عن السياسة، بعد أن قدموا لسنوات برامج سياسية جادة، وظهر أيضًا عديد من مقدمى البرامج فوق الستين (بتوع زمان) الذين كانوا يقدمون برامج ناجحة فى الثمانينيات أى منذ أكثر من 35 سنة، لكن أغلب الجمهور حاليًا من الشباب الذى لا يعرف نجوم زمان، فهو لم يشاهدهم «ولا يوعى عليهم»، والمفارقة أن «بتوع زمان» يستضيفون نجوما وضيوفا من بتوع زمان أيضًا.
المعنى باختصار أن برامج «بتوع زمان» تخاطب جيل الآباء والأجداد من الخمسينيات «وأنت طالع!!» وهنا قد يقول عباقرة تخطيط وإدارة القنوات الخاصة، إن الآباء والأجداد يشكلون أغلبية المشاهدين حاليًا، لأن الشباب يميل إلى استخدام السوشيال ميديا، وهذا كلام صحيح، لكنه يقلب الحقائق، لأن الشباب هرب إلى السوشيال ميديا نتيجة فقر برامج التليفزيون وهيمنة الصوت الواحد والجيل الواحد.
من هنا لجأت مؤخرًا إحدى القنوات لإطلاق برامج يقدمها شباب، وهو توجه جيد أرجو أن يستمر، لكن مع تقديم مضامين جادة، فالجمهور يحتاج برامج التسلية جنبًا إلى جنب مع البرامج الجادة والممتعة أيضًا، التى تثقف وتبنى وعيًا سياسيًّا يساعد الوطن فى اجتياز التحديات المحيطة به والانطلاق إلى الأمام، وهناك تجارب عديدة عبر العالم لبرامج تجمع بين المتعة والتثقيف، يمكننا أن نتعلم منها، وليس شرطًا أن تكون توك شو.
وامتلأت الشاشات بعشرات من برامج الطبخ والكرة، وكأن المصريات لم يطبخن فى حياتهن من قبل، ولا يعرفن علوم وآداب الطبيخ!!، وفسر بعض الكتاب الصحفيين كثرة برامج الطبيخ لأسباب تتعلق بالترويج لشركات الطعام، وجذب المعلنين، وقال البعض إن تلك البرامج وما تقدمه من أطعمة فاخرة وغالية تحاول تعويض حرمان بعض شرائح الجمهور من خلال المشاركة بالمشاهدة، وربما الحلم بجمال المطبخ أو الحلم بإعداد هذه الأصناف الغالية، وأنا غير مقتنع بهذه التفسيرات، لأن بعض وصفات الطبيخ بسيطة وغير مكلفة، وقناعتى أن إمبراطورية الإعلان والمعلنين عن السمن والزيت وغيرها.. وراء هذا الإفراط فى برامج الأكل والطبيخ، إضافة إلى برامج الكرة، والأخيرة يعشقها المصريون، كما أنها وصفة مجربة من أيام مبارك للهرب من مشاكل الواقع بحلم تحقيق بطولات فى الكرة المصرية والأفريقية، خاصة أن الكرة مجال مثالى لاختيار هوية وتحقيق انتماء، علاوة على ممارسة الصراع والتنافس، ليس فقط فى الملاعب ومن خلال الشاشات، وإنما بين النقاد والنجوم وأعضاء ورؤساء مجالس إدارات الأندية، وتبقى الكرة أيضًا مجالاً مفتوحًا للتنظير والفتوى لكل المواطنين سواء عن علم وخبرة أو جهل وادعاء.
رسالتى أن يعمل ملاك ومديرو القنوات المصرية الخاصة وتليفزيون الدولة (تليفزيون الشعب) بجدية وسرعة لتطوير بحوث المشاهدة اعتمادًا على الطرق العلمية الحديثة المتعارف عليها فى العالم، لمعرفة ماذا يشاهد المصريون؟ ولماذا؟ وما الذى يحتاجون إليه؟ وبالتالى يمكن تخطيط البرامج واختيار المقدمين وتحديد رواتبهم بشكل علمى دقيق، بدلاً من الاعتماد على بحوث المشاهدة الحالية المضروبة والمزورة، أو العمل بمنهج التجربة والخطأ، وكلا المنهجين سيؤدى حتمًا إلى انهيار صناعة التليفزيون، وتلاشى أحد أهم مكونات القوة المصرية الناعمة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة