من باع مصر؟.. لست فى موقع يسمح لى بتوجيه الاتهام لأحد بخيانة الوطن، ولست من هؤلاء الذين يروق لهم كيل الاتهامات للغير بسبب أو بدون سبب، لأن حب الوطن حالة تسكن بداخل كل منا ويعبر عنها بالطريقة التى يراها صحيحة وتتناسب مع أفكاره ومعتقداته السياسية والأيدلوجية، وهناك من يعبر عن هذه الحالة بالعمل والإنتاج، وآخرون بالاحتجاج على السلبيات وتعظيم الإيجابيات، ومجموعة تقترح الحلول للأزمات، وأخرى تقول وتقول وتقول لكنها لا تفعل، تكتفى بالنصح فقط، وآخرون يعتبرون حب الوطن فى معاداة نظام الحكم أياً كان.
كل مصرى حر فى التعبير عن حبه للوطن بالطريقة التى يراها، لكن شريطة ألا تؤذى هذه الطريقة الغير، فمن حق الجميع أن يعترض لكن أن تخون أو تسب فنحن فى هذه الحالة لسنا أمام حالة حب الوطن، وإنما حالة أخرى لا أجد توصيفا لها، لأن حب الوطن لا يمنحك أبداً هذا الحق.
أقول ذلك بمناسبة ردود الأفعال التى صاحبت الإعلان عن توقيع اتفاق تعيين الحدود البحرية بين مصر والسعودية، وقول الحكومة إنها أعادت للملكة جزيرتى «تيران وصنافير»، لأنهما فى الأساس ملك للسعودية، فالجدل حول الموضوع كان متوقعاً، لكن ما لم يكن متوقعاً أن يتحول إلى تخوين واتهامات لا يصح إطلاقها فى هذا المقام، منها على سبيل المثال القول بأن مصر باعت الجزيرتين للسعودية مقابل استثمارات أو أموال من المملكة، وكأن مصر قابلة للبيع والشراء!
أمر صحى وطبيعى أن يكون هناك جدل واختلاف فى الرؤى حول قضية معينة مثل قضية الجزيرتين، فالحوار هو السبيل للوصول إلى الحقيقة، وكنت أتمنى أن يكون هناك تبارٍ بين السياسيين والنخبة المصرية للوصول إلى الحقيقة، وأن ينتقل هؤلاء من خندق المعارضة القولية إلى إثبات ما يقولونه بالأدلة والوثائق، أو بمعنى أدق تكون بالفعل معارضة مسؤولة، لا تقف عند حد الكلام والتخوين، بل يكون لها دور فعلى.
كنت أتمنى أن يظهر من بين المعترضين على وضع الجزيرتين، من يتحدث بلغة المعلومات والوثائق، وأن يكون فى يده ما يؤكد رأيه وقوله، وإذا لم يملك فليحاول، مثلما حاولت الحكومة قبل أن تصدر قراراها الأخير، فالحكومة قبل حتى أن ترد بشكل نهائى على الطلب السعودى بإعادة الجزيرتين لها، بحثت عن كل الوثائق، بحثت فى الأمم المتحدة وفى الكونجرس الأمريكى ولدى البريطانيين ودول أخرى لعلها تصل إلى أى وثيقة تثبت عكس ما يقوله السعوديون، لكنها للأسف لم تجد فلم يكن أمامها إلا رد الحق لأصحابه.
هذا ما فعلته الحكومة فهل لدى المعارضين للقرار طريقة أو آلية أخرى للبحث عن وثائق تثبت عكس الموجود حالياً، لعرضها على البرلمان أثناء مناقشته للاتفاقية؟ أم أنهم سيواصلون إطلاق الشعارات التى لا تأتى لنا بالحقيقة أبداً.
بالتأكيد هناك خطأ ارتكبته الحكومة المصرية حينما فاجأت الجميع بوضع الجزيرتين، حتى وإن كان للموضوع خلفية تاريخية بدأت أثناء حكم جمال عبد الناصر وتحديداً فى 27 مايو 1967، حينما أرسل خطاب مندوب مصر الدائم لدى الأمم المتحدة خطاباً لمجلس الأمن قال فيه نصاً: «إن مصر لم تحاول فى أى وقت من الأوقات أن تدعى بأن السيادة على هاتين الجزيرتين قد انتقلت إليها، بل إن أقصى ما أكدت هو أنها تتولى مسؤولية الدفاع عن الجزيرتين»، لكن الخطأ فى الإخراج لا يبرر هذا السيل من الاتهامات التى لا أساس لها، ويعلم مطلقوها أنها فارغة المضمون تماماً، لأنه إذا كان النظام الحالى لديه النية لبيع مصر بالفعل لفعل ذلك من قبل، حينما عرض عليه الإخوان ذلك قبل 30 يونيو 2013، ولفعل ذلك أيضاً حينما ضاقت الدائرة الدولية على مصر ولم يكن من مخرج سوى بالدفع بجنود مصريين للحرب فى سوريا واليمن، لكن لم يفعل النظام ذلك، لأنه نظام وطنى لا يبيع نفسه ولا وطنه أبداً، وليس فى عقيدته الدفع بجنود مصر خارج الأراضى المصرية إلا لمهمة تمس الأمن القومى المصرى، حتى وإن كان المقابل هو مليارات الدولارات.
التخوين سهل وإثبات الحقيقة صعب، فأى طريق سيختاره المصريون، طريق الشعارات فارغة المضمون، أم البحث عن الحقيقة التى تفيد الجميع وأولهم مصر، هذا هو السؤال الآن وعلى الجميع الاختيار.