صناعة المأكولات الشعبية انتشرت فى جميع أنحاء البلاد لجودتها العالية
مصنع لحوم الـ"ريندانج" فى "بادانج" الأول عالميا بفضل عمل "النساء"
بابتسامة تعلو وجهها وبوشاح صغير يغطى رأسها، تجلس بصحبة فتياتها الصغيرات والشابات العاملات بمصنعها الصغير بإحدى القرى الريفية القابعة وسط الأشجار والغابات الكثيفة، يعملن بتفانى منذ الصباح الباكر حتى عصر كل يوم، ليصنعن أشهر مأكولات إندونيسيا على الإطلاق الـ"ريندانج"، متغلبين على الظروف الاقتصادية المحيطة بهن.
هكذا وجدنا "إيفا ملذا" القاطنة بمدينة "بادانج" عاصمة محافظة "سومطرة الغربية" بشمال إندونيسيا خلال جولة "اليوم السابع" بمدن وقرى سومطرة، ضمن آلاف النساء والفتيات العاملات فى "الصناعات الصغيرة والمتوسطة"، التى نجحت فى دعم الاقتصاد الإندونيسى بشكل كبير، وتحويله لما يطلق عليه "نمر أسيوى" ينافس دول شرق آسيا اقتصاديا.
وتتميز "سومطرة الغربية" بسحر طبيعتها وجمال مناظرها وروعة جوها وطيبة أهلها، ويعمل معظم سكانها بعدد من المصانع الصغيرة والمتوسطة، فى مجال الأغذية والمنسوجات اليدوية، التى أصبح لها شهرة عالمية بفضل إتقان عمل أهلها ومهارتهم واحترامهم للعمل وعدم انتظارهم لوظائف حكومية.
إندونيسيا التى عانى أهلها من الفقر والبطالة وظروف سياسية واقتصادية طاحنة فى منتصف سنوات التسعينات من القرن الماضى بسبب سياسة الرئيس الإندونيسى الأسبق سوهارتو الذى استقال عام 1998 إثر ثورة شعبية عارمة ضده بعد حكم دام 33 عاما، أصبحت الآن رابع أكبر اقتصاد فى آسيا بعد الصين واليابان وكوريا الجنوبية، ويصنف اقتصادها فى المرتبة الـ 15 بين أقوى اقتصاديات العالم، وذلك بفضل العمل الدؤوب لأبنائها فى شتى المجالات فى جميع مناطق البلاد التى تضم حوالى 17508 جزر بمساحة إجمالية من اليابسة تصل لـ 1.9 مليون كم مربع.
فالعمل فى الصناعات الصغيرة والمتوسطة سواء فى القرى بالأقاليم المختلفة أو بالمدن الرئيسية والصغيرة أيضا، ساهم بشكل كبير فى نمو الاقتصاد الإندونيسى، فالجميع هناك يعمل سواء فى الصناعة أو الزراعة أو السياحة، لا أحد ينام ويتكاسل عن العمل، فالجميع يستيقظون فجرا للذهاب إلى أعمالهم، فحب العمل والإتقان والتفانى فيه رفع من شأن البلاد وجعلها دولة ذات مكانة عالمية بين الكبار المحيطين بها، مع العلم أن عدد السكان مرتفع للغاية، فتشير الإحصاءات أن التعداد السكانى قد يصل لـ 255 مليون نسمة فى نهاية عام 2015 الجارى، لتحتل المرتبة الرابعة فى عدد السكان حول العالم بعد الصين والولايات المتحدة والهند.
"الريندانج" من المحلية إلى العالمية
تقول "إيفا" صاحبة مصنع "الريندانج" للحوم: "إن الريندانج تحول من أكلة محلية إلى أكلة شعبية فى جميع أنحاء إندونيسيا بل وتعدى الحدود ليصبح ذات شهرة عالمية لينال إعجاب كل من تذوقه"، مضيفة: "الريندانج أكلة خاصة بشعب سومطرة الغربية ومشهورة بطعمها اللذيذ وتظل صالحة لمدة شهر بالكامل دون إضافة أى مواد حافظة صناعية، وتتكون من اللحوم أو الدواجن أو الأسماك التى تعد بطريقة خاصة بعد إضافة التوابل الإندونيسية المميزة وعصير جوز الهند والكارى والثوم والزنجبيل والفلفل الحار، وتستغرق صناعته 4 ساعات فقط".
وتضيف إيفا: "بدأت الإنتاج فى المصنع منذ سنوات طويلة بعاملين فقط حتى وصل عدد العمال حاليا لـ 20 عاملا جميعهم فتيات، وبدأ الريندانج ينتشر تدريجيا لجميع أنحاء سومطرة ثم إلى العاصمة جاكرتا حتى باقى المناطق والمحافظات الإندونيسية المختلفة، وأخيرا أصبح يصدر خارج البلاد، رغم أنها صناعة أهلية يقوم عليها أهل القرى البسطاء بسومطرة الغربية".
وتستطرد صاحبة المصنع الأشهر بسومطرة قائلة، إن "الريندانج" حاز على إعجاب العالم الغربى، حتى أن شبكة CNN الأمريكية أعدت تقريرا خاصا عنه من قبل، واعتبرته ألذ الأطعمة فى العالم وصنفته بالأول عالميا من حيث المذاق الجيد الشهى.
الريندانج الذى تحول من صناعة إندونيسية محلية إلى العالمية يعمل فى صناعته العديد من الأسر السومطرية وقاموا ببناء مصانع صغيرة لإنتاجه فى العديدة من قرى سومطرة الغربية وعلى رأسهم مدينة "بواكندو" التى أسست مصانع الريندانج فى العديد من نواحيها، ومن سومطرة لجاكرتا العاصمة، أصبح للريندانج مصانع خارج إندونيسيا نفسها.
مراحل تصنيع الريندانج
وللريندانج مراحل كثيرة يمر بها خلال تصنيعه حتى يصل لشكله الأخير قبل بيعه، فالفتيات يقمن بغسل اللحوم والدواجن والأسماك جيدا عدة مرات ثم يتبلنها بالتوابل الإندونيسية المميزة، ثم تأتى مرحلة الطهى التى تستغرق حوالى 4 ساعات، وفى هذه المرحلة تقف الفتيات أمام الأوانى الضخمة لتقليب الريندانج جيدا، وعقب عملية الطهى يترك ليبرد قليلا ثم يضاف إليه توابل أخرى قبل تغليفه وتعبئته فى أكياس معقمة ومخصصة له قبل عرضه للبيع.
الأمر الذى يلفت نظرك أثناء تواجدك بالمصنع هو الاهتمام الشديد بالنظافة فى كل مراحل عمل "الريندانج"، حتى أنه قبل دخولنا لغرف التصنيع تم إلزامنا بارتداء أحذية خاصة من القماش وقفازات وقبعة منعا لتلوث الطعام داخل المصنع، بالإضافة أن الفتيات يقمن بعد كل مرحلة من مراحل التصنيع بغسل الأدوات جيدا بالمياه الساخنة.
"الريندانج" كبقية الصناعات الصغيرة والمتوسطة يساهم بحوالى 60% من إجمالى حجم الاقتصاد الإندونيسى، وفقأ لأحد الدبلوماسيين الإندونيسيين المقيمين فى سومطرة.
"إرما" رائدة المنسوجات اليدوية تشاركها 250 أسرة
وبقرية "بانداى سيكيك" بمدينة "بادانج بانجانج" كانت تجلس "إرما يولنيتا" الخمسينية العمر على كرسيها فى نهاية معرضها الذى يعج بالمفروشات والفساتين، والشنط المصنوعة بالكامل يدويا تغزل زيا جديدا، قطعته زيارتنا المفاجأة.
تجلس "إرما" أمام آلة بدائية لغزل الحرير والخيوط القطنية بجسدها النحيل، ولكن بقامة صلبة توجه آلتها بكل براعة لتضع كل خيط فى مكانه المخصص لترسم فى النهاية لوحة فنية بخيوطها ذات الألوان الزاهية الجميلة.
وتقول إرما:"يأتى إلى المعرض الآلاف سنويا من دول العالم، وعلى رأسهم بعض الوجهاء كرئيس الوزراء الماليزى السابق مهاتير محمد، وسلطان مملكة برونوى حسن بلقية"، مضيفة أنه بسبب أهمية الصناعات اليدوية فى الفكر الإندونيسى فقد طبع على العملة الإندونيسية فئة الـ 5000 روبية الآلة البدائية التى تستعملها فى تصنيع أنسجتها"، مشيرة إلى أن صناعة ثوب واحد يستغرق حوالى 3 أشهر، نظرا لدقة التطريز فيه.
وتعد هذه الصناعة التى يطلق عليها "ساتو كاريا" – أى إبداع واحد - من بين الصناعات اليدوية الإندونيسية التى اشتهرت بها سومطرة الغربية، حيث تصنع الملابس يدويا دون تدخل الماكينات الكهربائية.
ومن كل المناطق فى إندونيسيا يأتى الإندونيسيون للمعرض لشراء منتجات الصناعات النسيجية اليدوية التى تنتجها إرما، التى يعمل معها حوالى 250 سيدة من 250 أسرة فى تصنيع الأنسجة اليدوية المختلفة كالفساتين والشنط والأحذية وغيرها من المشغولات النسيجية.
وتقول إرما: "بدأت بأموال بسيطة للغاية حوالى 200 ألف روبية إندونيسية - حوالى 10 آلاف جنيه مصرى – منذ أكثر من 30 عاما عندما كان عمرى حينها حوالى 20 عاما فقط، ثم تحول المشروع إلى معرض كبير يأتى اليها الزبائن من مختلف أنحاء إندونيسيا والعالم".
ويعمل الكثير من السيدات والفتيات بقرية إرما معها من خلال نظام المشاركة، حيث تقوم هى برسم التصميمات المختلفة للملابس وبقية الأعمال النسيجية المختلفة وهن ينفذونها ببيوتهم الريفية الجميلة ذات الحوائط الخشبية والأسقف المائلة وسط الحقول هذه التصميمات، وعند الانتهاء منها تقوم إرما بتسويقها لهن فى المعرض وبيعها بأسعار مناسبة، وجميع تلك المنتجات مكونة من القطن وخيوط الحرير وخيوط صناعية من اليابان والهند.
مصانع البطاطس و"الكسافا"
وفى قرية "بوكيت تينجى" الواقعة وسط سومطرة الغربية، توجد مصانع صغيرة أخرى لإنتاج المواد الغذائية ذات الجودة العالية منها صناعة "رقائق البطاطس" المحمرة و"الكسافا" - نبات يشبه إلى حد كبير البطاطس فى شكله وطعمه ولكن حجمه أضخم - وتقوم تلك المصانع بتصنيع البطاطس المقرمشة.
ورصد "اليوم السابع" مراحل هذه الصناعة فى مصنع "بانداى سيكيك" فى بوكيت تينجى، حيث يتم إضافة مكسبات الطعم الطبيعية الخالية من أى مواد صناعية على البطاطس بعد قليها ثم تغليفها جيدا وعرضها للبيع بمعارض المصانع للجمهور، والتى يأتى إليها السائحون الزائرون لمناطق سومطرة الغربية خصيصا لشرائها كهدايا بفضل جودة طعمها ومذاقها اللذيذ.
يقوم العمال داخل المصنع بتقشير البطاطس والكسافا بأدوات مخصصة ثم يتم غسلها جيدا لتصل لمرحلة القلى فى غلاية كبيرة، يتم تغيير زيت الطعام فيها يوميا حرصا على سلامة صحة المواطنين، ثم يقوم عمال آخرون بتغليف المنتج بعد إضافة التوابل المميزة وعرضه داخل معرض المصنع.
نهضة إندونيسيا بعد ثورتها
يقول الدكتور محمد خوليد، رئيس قسم الدراسات الإسلامية بجامعة دار السلام الإسلامية بإندونيسيا، لليوم السابع، "إن البلاد تعافت سريعا بفضل الله عقب الثورة ضد نظام سوهارتو فى نهاية التسعينات وذلك بفضل العمل، فكل فرد فى إندونيسيا بدأ يركز فى العمل ونحى الخلافات السياسة جانبا، كما أن الجيش كان له دور بارز فى ذلك، حيث اتخذ موقف الحياد، وعقب استقرار الأوضاع لم يتدخل الجيش مطلقا فى سياسة البلاد".
أصبحت الصناعات المتوسطة والصغيرة فى إندونيسيا من محركات الاقتصاد القومى للبلاد كما يقول كوبرى نورزين، مسئول دبلوماسى إندونيسى يقيم فى سومطرة الغربية لليوم السابع، مضيفا أن تلك الصناعات وصلت لـ60% من حجم الاقتصاد الإندونيسى، والصناعات الصغيرة حوالى 30% والمتوسطة الـ 30% الأخرى، بينما تحتل الزراعة والصناعات التعدينية والسياحة حوالى 40 % من حجم الاقتصاد، مما يؤكد مكانة تلك الصناعات فى إندونيسيا وتأثيرها الكبير فى الاقتصاد القومى.
ويضيف "كوبرى" أن إندونيسيا كان مقررا لها أن تصبح رائدة الاقتصاد فى قارة آسيا بالكامل منذ بداية التسعينات، وبدأت بالفعل فى تصنيع أول طائرة مدنية آسيوية، ولكن بعد الأزمة الاقتصادية التى ضربت البلاد فى عام 1998 والثورة العارمة التى نشبت ضد حكم الرئيس الأسبق سوهارتو، تعافت إندونيسيا سريعا من أزمتها الاقتصادية بعد حوالى 3 سنوات من الثورة بفضل عمل أهلها الجاد وتصميمهم على العودة للنهضة الإندونيسية سريعا.
موضوعات متعلقة..
- لماذا لا نتعلم من التجربة الإندونيسية؟.."اليوم السابع"داخل"سومطرة الغربية"وترصد استغلال شلالات المياه والجبال والبراكين والبحيرات كمقومات سياحية لرفع الاقتصاد..الدولة ألغت التأشيرات لـ75 دولة منها مصر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة