أؤكد أن هناك كثيرا ممن يدعون أنهم معارضون قد استقر فى وجدانهم عقيدة، حولت المعارضة لديهم إلى (حالة مرضية) جعلتهم يقلبون الحكم على الأمور من الموضوعية إلى مجرد ممارسة (المعارضة من أجل المعارضة) حتى ولو كان ما يعترضون عليه لا يتماشى مع العقل أو المنطق، على ذات نهج الفنان محيى إسماعيل فى فيلم (خلى بالك من زوزو) الذى رفع خلاله شعار (خُلقت لأعترض(.
أؤكد هذه الحقيقة للأسف، على الرغم من قناعتى الكاملة بأنه لا توجد دولة ديمقراطية فى العالم يمكن أن تعيش دون معارضة وطنية محترمة، وأن الأمر يحتم على النظام ضرورة السماح بوجود معارضة حقيقية، ينظر إليها على أنها جزء لا يتجزأ من كيان الدولة، بعيدا عن نظرية التخوين والعمالة.
ورغم ذلك فإن الواقع يؤكد أن عقيدة (المعارضة المرضية) تطورت للأسف لدى كثير من هؤلاء، لدرجة جعلتهم يسيرون بمبدأ (خالف تعرف) لا لشىء سوى للفت الأنظار، والظهور للتشنج والتهليل دون مبرر أو دليل، اعتمادا فقط على الصوت العالى، بل تطور الأمر إلى (سب ولعن وتشويه) مع كل من أختلف معهم فى الرأى، وتصويره على مواقع التواصل الاجتماعى على أنه شيطان، على الرغم أنهم أول من نادوا كل الأنظمة منذ عهد عبد الناصر باحترام حرية الرأى، والارتقاء بثقافة الحوار بعيدا عن اللعن والسباب.
وما يلفت النظر هنا أنه على الرغم من اختلاف الأنظمة وتغيير الحكام إلا أن هناك وجوها منهم لم تترك مقاعد المعارضة منذ عهود، فاختلفوا مع (السادات، ومبارك، والمجلس العسكرى، ومرسى، والسيسي) وأعتقد أنه لو أتيحت لهم الفرصة للاختلاف مع صوفى أبو طالب وعدلى منصور لفعلوا، على ذات مبدأ خُلقت لاعترض) .
ولعل ما يلفت الانتباه هنا أيضا، هو موقف العشرات من هؤلاء من قضية جزيرتى (صنافير وتيران) فعلى الرغم من البلبله التى صنعها العديد من (الفتوجية) فى أذهان الشعب المصرى، لم يحكم هؤلاء لغة العقل والتروى، والانتظار لاستيضاح الحقيقة، حتى تخرج الحكومة بالوثائق التى تبرر موقفها من تسليم الجزيرتين للمملكة العربية السعودية، أو يخرج المتخصصين بما يؤكد تبعية تلك الجزر للسيادة المصرية، وبعد ذلك الحكم يقينا وتبنى موقف.
إلا أن من يسيرون بذات مبدأ (محيى إسماعيل) تعاملوا مع النظام بذات المنطق الذى عانوا هم أنفسهم منه مع الأنظمة السابقة، حينما كانت تتهمهم بالخيانة والعمالة، وسارعوا إلى افتراض ذات نظرية التخوين والعمالة، ودعوا إلى تنظيم مظاهرات عارمة لإسقاط النظام الذى ساندوه وبايعوه وخرجوا لمناصرته فى وجه نظام الإخوان منذ شهور، على الرغم من أنه ليس لدى أى منهم ما يقدمه كدليل لـ(نفى أو إثبات) موقف محدد من القضية، سوى (الكلام فقط).
ولعل المحزن والأخطر فى موقفهم هذا، أنهم يعلمون يقينا أن اهتزاز أو سقوط النظام هذه المرة، وفى ظل المؤامرات التى تتعرض لها مصر من الداخل والخارج فى تلك الفترة، معناه ضياع البلاد بمن فيها إلى الأبد، والدخول فى طريق اللاعودة، وضياع الجميع نظام ومعارضة، مثلما حدث مع العديد من دول المنطقة، وهو ما يضع كثيرا من علامات الاستفهام حولهم جميعا .
ولعل أكثر ما أحزننى فى الأمر هو ذلك التحول المشين فى سلوكيات هؤلاء المعارضين، وكفرهم بمبدأ (أدب الحوار) الذى كثيرا ما نادوا به، واتهموا كثيرا من رموز الأنظمة السابقة بافتقاده، وتحولوا فجأة إلى إشهار سلاح (القذارة والسب واللعن) فى وجه كل من اختلف معهم فى الرأى، بدلا من وتبنى حوار هادئ وراقى بعيدا عن التشويه .
أؤكد أنه على الرغم من أننى تعمدت عدم الاقتراب من قضية (تيران وصنافير) لأننى بالفعل ـ لا أمتلك ـ ما استطيع به أن أقطع يقينا بصدق أو كذب النظام فى القضية.. إلا أن ما أستطيع أن أقطع به، إننى حزين لموقف (خلقت لاعترض) الذى تبناه وما زال يتبناه كثيرا ممن يسمون بـ(المعارضين) الذين اتضح بالممارسة، أنهم أبعد ما يكونون عن الحكمة والحنكة، وتبنوا مواقف شبيه بموقف الفنان (محيى إسماعيل) ودعوا إلى إسقاط النظام فى تلك الفترة الحرجة، على الرغم من يقينهم بالعواقب الكارثية التى سيترتب عليها أى اهتزاز لمصر فى الوقت الحالى .
رحمة الله على (ضياء الدين داوود، وإبراهيم شكرى، وعلوى حافظ، وممتاز نصار، و إبراهيم عبادة، وأبو العز الحريرى) وكل المعارضين الوطنيين المحترمين، الذين لم يتخلوا يوما عن الموضوعية، ولم يعارضوا يوما من أجل المعارضة، وسحقا لكل من (خُلقوا ليعترضوا) حتى إن شتموا، وإن سبوا، وإن لعنوا.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة