تلك الثنائية التى تلخص كثيرا من الجدل الواقع اليوم بين ذوى الاتجاهات والأفكار المختلفة الكبر والهوى، ثنائية لخصتها جملة قيلت يوما فى حق مسيلمة الكذاب حين تجلى كذبه لكل ذى أذنين وعقل يعى ويفهم «وإن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مُضَر». لقد أقرَّ المشركون فى ذلك الزمان بكذب مسيلمة وسفاهة منطقه كما أقروا لنبينا صلى الله عليه وسلم بالصدق فى السياق نفسه. الصدق الذى طالما عُرف النبى به وطالما ظهر فى كلامه، وظهر أكثر من خلال الوحى المنزل من عند ربه يتلوه عليهم ويسمعونه ويؤثر فيهم حتى يقول أحدهم عن ذلك الوحى «إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق وإنه يعلو ولا يعلى عليه وما يقول هذا بشر»، هذه الكلمات الرائعة قالها عن القرآن رجل مشرك وهو الوليد بن المغيرة، لكنه مع جمال وصفه للقرآن لم يتبعه!! لم يتبع كتابا شهد له بأنه يعلو ولا يعلى عليه ولم يؤمن لرسول رأى ورأى الملأ من حوله فى خاص مجالسهم، إنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون وليس هذا الكلام الذى جاء به بالشعر ولا يشبهه، لكنهم مع ذلك آثروا هواهم وغلبت عليه شقوتهم وعصبيتهم تماما كما غلبت على قوم فرعون الذين قال الله عنهم: «وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلواً».
لقد استيقنوا صدق رسالة موسى فى أنفسهم، لكنهم مع ذلك جحدوها على الملأ واتبعوا أمر من استخفهم كما اتبع أقوام من بعدهم مسيلمة وذلك لشىء يقال له الهوى.. الهوى الذى يعمى عن كل شىء آخر، يتفرع عن ذلك الهوى كل فروع التعصب والتحزب والأنانية التى لا تحرص إلا على مصالحها أياً كانت السبل الموصلة لتلك المصالح، ومهما فاحت رائحتها لتزكم أنوفا صحيحة وتشمئز منها عقول مستقيمة.
حين تدور المواقف تبعا للمصالح، وحين تختلف الأحكام والتقييمات تبعا للغضب أو الرضا، وحين تتباين المبادئ تبعا للولاءات ومواقع الناس من الشخص ومن فريقه فإن ذلك سيظهر لا محالة، إن آجلا أو عاجلا سيظهر صارخا بانعدام المصداقية وفاضحا اختفاء الإنصاف وغياب عدالة التقييم وحينئذ لن تكون تلك المواقف والتقييمات والمبادئ التى يكثر التشدق بها فارقة أو ذات قيمة لأحد، ذلك لأنها صادرة عن فاقد للمصداقية يحركه الهوى يمنة ويسرة ويدفعه للتخلى عن أهم تلك المبادئ والثوابت بصورة مذهلة، ولكى يزول عجبك وتدرك حقيقة التخلى الرهيب عن تلك المبادئ والشعارات التى طلما يتشدق البعض بها ثم يلقونها عند أول محك مسارعين إلى نقيضها، لابد أن تضع فى اعتبارك تلك الطبيعة النفسية الموجودة لدى جل البشر إلا المتجردين المنصفين وقليل ما هم! إنها طبيعة ترفض الاعتراف الضمنى بالخطأ وسوء التقدير ورداءة الاختيار أو حتى احتمالية ذلك، طبيعة ملخصها: لا والله لم أخطئ قط، وخياراتى دوما كانت هى أصح الخيارات وأحكم القرارات حتى لو صرخت كل الشواهد بالعكس وحتى لو حدث يوما وشهدت الخيارات نفسها على خطئها تصريحا لا تلميحا، فإنهم سيرفضون تلك الاعترافات، وسيؤكدون أن الأمر ليس كما يبدو ببساطة، لأن قبولهم لنقد خياراتهم قد يعنى ببساطة أنهم قد أخطأوا ابتداءً يعنى أنهم مضطرون لكلمات من نوعية: آسف.. أخطأت.. تراجعت.. ندمت.. إلخ، يعنى أنهم قد يحتاجون كسائر البشر الطبيعيين للمراجعات والتقييمات وإعادة النظر فى الأشياء، والاعتراف أحيانا أن الحق لم يكن معهم والصواب لم يكن ملازما لهم، وهذا طبعا لا يليق بعصمتهم الضمنية ولا بذكائهم الباهر وحسن تقديرهم الأبدى لا يليق بلسان حالهم الذى يكاد يصرخ قائلا: «لو كان خيرا ما سبقونا إليه». وخلاصة ذلك هى الاجتماع بين الهوى والكبر الذى أدى لرفض الحق وإن صرخ بهم مناديا، ذلك الاجتماع الذى لخصه النبى صلى الله عليه وسلم بتعريف جامع مانع كعادته» الكِبْرُ بَطَر الحقّ وغَمْط النَّاس.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة