تقوم الدولة هذه الأيام بتنفيذ العديد من المشروعات الكبرى من خلال القوات المسلحة والوزارات المعنية وشركات قطاع المقاولات العامة وتشرك أيضا بعض الشركات العاملة فى تلك المجالات من القطاع الخاص المحلى والأجنبى وذلك بغرض دفع عجلة الاقتصاد القومى مطبقة بذلك ما يعرف "بسياسة الاحتكارات العامة." ومثل أى دولة فى العالم فان سياسة "الاحتكارات العامة" قد تستخدم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية، وفى كثير من الأحيان لأسباب استراتيجية قومية. الأمر الذى ينتهى دائماً إلى مشكلة تحديد الأسعار فى حالات الاحتكار العام للدولة لإنتاج سلع أو خدمات معينة.
وعليه تتحدد الأسعار عند مستوى أعلى من مستوى سوق المنافسة الحر، فى حالة ما إذا تركت هذه السلع إلى آليات العرض والطلب. وهنا لا نقصد الدعم، بل على العكس حيث تحدد الدولة أسعار احتكارية أعلى من أسعار السوق العدية، شأنها فى هذه الحالة شأن الضرائب غير المباشرة , حيث ترتفع أسعار السلع والخدمات التى تقدمها الدولة عن نفقة الإنتاج الحقيقية. ويدور هنا تساؤل لمعرفة ما إذا كانت هذه الزيادة فى الأسعار عن نفقة الإنتاج الحقيقية (الخالصة) تشكل مساهمة أو تدخل من الدولة فى التوزيع الأولى للدخول لصالح فئة أو قطاع على حساب فئة أو قطاع أخر، أى بمعنى أخر لصالح المنتجين ( اى الدولة هنا) على حساب المستخدمين ( المواطنين هناك) لتلك السلع والخدمات.
وحتى يمكننا أن نتبين حقيقة الأثر التوزيعى لتحديد الأثمان فى حالة الاحتكار العام من جانب الدولة، يكون من الضرورى أن نتعرف على طبيعة هذه الزيادة فى معدلات الأسعار عن نفقة الإنتاج الحقيقية فى الحالات الاحتكارية العامة. وقد انقسم الفكر الاقتصادى بكل مذاهبه حول هذا الوضع إلى قسمين، حيث يرى بعض الكتاب المحافظين أن الثمن السوقى لهذه السلع والخدمات الذى يزيد به سعرالمنتج عن نفقة انتاجة فى حالات الاحتكار العام لا يشكل ثمناً خالصاً، بل يشتمل، بالإضافة إلى الثمن العادى (ليس مثل أى سلعة والتى يتحدد ثمنها بالتكلفة الانتاجية مضافاً إليها هامش ربح مقبول)، على ضريبة مستترة تمثل الزيادة الكبيرة فى السعر السوقى على نفقة الإنتاج الخالصو الربح العادى سابق البيان. بينما يرى البعض الآخر من كتاب الاقتصاد الحر أن الثمن السوقى المرتفع فى حالات الاحتكارات العامة، لا يعدو أن يكون تطبيعياً لنظرية "التسعير المستغل" فى مثل كل حالات الاحتكار سواء عام أو خاص، أى بمعنى أخر استغلال المنتج للمستهلك بصفته "العارض الأوحد" للسلعة أو للخدمة فى تلك الحالة.
وواضح إذاً أننا إذا اعتبرنا الزيادة السعرية عن نفقة الإنتاج، مجرد ضريبة مستترة تماشياً مع أصحاب الفكر الأول، ما بعد البيان، نكون أكثر واقعية. حيث لا أتصور أن الدولة بأى حال من الأحوال وتحت أى ظرف، تعمل على استغلال المواطنين لمجرد أنها تملك حق الممارسات الاحتكارية فى انتاج بعض السلع والخدمات. وهو ما يؤكد لنا أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مساهمة أو تدخل من الدولة فى عملية التوزيع الأولى للدخول بعد تغطية نفقات الإنتاج الحقيقية. وتتدخل الدولة مرة أخرى فى عملية إعادة توزيع الدخول (بنفس الأسلوب الاحتكارى) بمقدار الفرق بين السعر السوقى التى تحدده وتكلفة الإنتاج الحقيقية، حيث كلما زاد أو تقلص الفرق، تحدد حجم إعادة التوزيع.
أما إذا اعتبرنا أن ثمن السلعة السوقى ثمناً خالصاً، فإن الاحتكار العام فى هذه الحالة يشكل مجرد مساهمة أو تدخل من الدولة فى التوزيع الأولى للدخول وليس أكثر من ذلك، أى بمعنى آخر لا تكون لهذه السياسة الاحتكارية أى دور فى إعادة توزيع الدخل القومى على الاطلاق.
وفى النهاية، ومع التسليم بما لدى الدولة من أدوات احتكارية تعطيها سلطة واسعة، لا يضاهيها أى قطاع خاص فى البلاد، كثيراً ما تختلط هذه السياسة، بالسلطة السيادية للدولة ذاتها. إلا أننا نميل إلى اعتبار الثمن السوقى فى حالات الاحتكارات العامة للدولة جزء من سياسة التوزيع الأولى للدخول، والتى تهدف وكما ذكرنا إلى توزيع الدخل على قطاعات بعينها على حساب قطاعات أخرى، لأهداف قد تكون استراتيجية وقومية أو حتى سياسية أكثر منها اجتماعية أو اقتصادية.
كما أننا نحتسب نفس الحكم على الرسوم التى تتقاضاها السلطة العامة فى الدولة مقابل بعض الخدمات التى تقدمها، وتحدد هى سعرها مطلقة العنان، لكونها صاحبة الحق القانونى وحدها فى عرض مثل هذه الخدمات العامة والتى يقع عليها أيضاً صفة الاحتكار العام للخدمات ذات الطابع الخاص. وهذا يضيف للسلطة العامة أداة جديدة إلى أدواتها المالية المعروفة، فى توزيع وإعادة توزيع الدخل القومى كيفما شاءت، لتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية فى البلاد، إن أحسن استخدامها.
• كلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة