اعتاد الشعب المصرى منذ قيام ثورة يوليو 1952 حتى اليوم على أن يحصل العاملون فى الدولة والقطاع الخاص على منحة عيد العمال، وتمثل النداء الشعبى فى كل خطابات رؤساء مصر فى جملة "المنحة يا ريس" واعتاد الرؤساء فى وضع ابتسامة رقيقة على وجوههم وإعطاء المنحة فى نهاية خطاب احتفالات عيد العمال من كل عام، وفى هذا العام على الأخص تحدث الرئيس السيسى عن الظروف الاقتصادية الصعبة التى تمر بها البلاد، وأكد سيادته أنه من غير المتصور أن تقف الدولة موقف الحياد، وعليها أن تتدخل وبقوة لإعادة التوازن الاقتصادى وتحسين وضع العمال بل وجميع المواطنين.
ومن هنا بدأ أثر «نظرية الدولة الايجابية» يظهر تدريجيًا فى السياسة الاقتصادية المصرية، حيث تطورت تحت تأثير تلك الحوادث ومهدت للقائمين على الاقتصاد، خاصة بعد 30 يونيو 2013 وتولى الرئيس السيسى الحكم، من قبول تدخل الدولة فى الاقتصاد بشكل فعال لمحاولة دعم عجلة التنمية لضمان توازن التشغيل الكامل، وتمثلت وسيلة ذلك فى أول الأمر فى السياسة النقدية من خلال الاجراءات الإصلاحية الكثيرة التى قام بها البنك المركزى المصرى ما بين فترة تولى السيد هشام رامز إلى السيد طارق عامر، من رقابة وتقييد التلاعب فى سوق النقد وبعض الإجراءات الفنية الخاصة بسياسات التعاملات البنكية بالعملة المحلية والأجنبية. غير أن التباطؤ النسبى فى معدل النمو قد اقتضى سياسة تداخلية أكثر عمقًا مع السياسة النقدية المتوازنة نسبيًا. فقد كان من الضرورى استدعاء «السياسة المالية الوظيفية «من خلال التوسع فى الإنفاق العام (فى مجالات عدة) لمحاربة البطالة ولإعادة الاستثمار الخاص (المحلى والأجنبى) وإعطاء جرعة سريعة لإنعاش الاقتصاد، أى بعبارة أخرى تطلب الأمر خروج وزارة المالية بسياستها الضريبية والإنفاقية عن الأسلوب التقليدى العقيم، لتولى مسئولية تحقيق هذه الأهداف القومية. وهو الذى يوضح تطور السياسة المالية فى العامين الماضيين والتى كانت نتيجة لتطور الأحداث الاقتصادية والاجتماعية، أكثر من كونه نتيجة لتطور الفكر المالى فى مصر، أى كانت نتيجة للضروريات العملية لا نتيجة لتغير المبادئ النظرية للوظائف المالية وأدواتها.
ولكن ليس معنى ذلك أن النظرية الاقتصادية القائمة على تدخل الدولة الإيجابى لم يكن لها أثر فى تطور استخدام أدوات سياستنا المالية، بل معناه فحسب أن تلك النظرية كانت عاملا مساعدًا ولاحقًا للعوامل العملية، فقد مهد تطور الفكر الاقتصادى المعاصر وتجارب دول العالم التى سبقتنا فى هذا المجال، خاصة بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتدخل الصارخ لأغلب دول العالم فى الاقتصاد لإعادة التوازن، لقبول تدخل الدولة فى مصر وتوسعها فى النشاط الاقتصادى. وبدت واضحة وسائل التدخل، فلم تكن فى الحقيقة السياسة المالية قبل 30 يونيو 2013 تتحكم فى التشغيل ولا فى الإنتاج ولا فى المستوى العام للأثمان بصورة فعالة، ولم يكن هناك ثمة تفكير اقتصادى على أسس علمية واضحة يعتد به فى قيام سياسة مالية لملافاة التقلبات الدورية، ولا ثمة تفكير لملافاة الركود طويل المدى أو ارتفاع الأسعار، حيث اعتمدت حكومات ما قبل الثورة على عشوائية آليات السوق وحدها لتحقيق التوازن الاقتصادى تاركة تقلبات أداء السوق تعصف بنا هنا وهناك. والحق أن كل ما قدمته لنا تلك الحكومات أقل ما يوصف به هو "سياسات رتق الثوب المعيبة".
ومع تولى الرئيس السيسى الحكم بدأ التحول التدريجى للسياسة المالية والنقدية من كونها نتيجة للضروريات العملية إلى كونها فكر أساسى لتطور المبادئ النظرية، حيث عادت "السياسة المالية الإيجابية" لمصر لأول مرة منذ عهد الزعيم الراحل الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت الرغبة فى محاربة الركود والتضخم وإهدار المال العام وتحقيق قدر من العدالة الاجتماعية هى غرضها الأساسى هذه المرة، ولقد مهد تطور فكر الإدارة المصرية الحالية أيضًا تحول كل السياسات الاقتصادية العامة فى هذا الاتجاه، حتى فى مرحلة المؤتمر الاقتصادى ومؤتمر القمة العربية، بحيث أصبحت الإدارات فى كثير من البلاد العربية ومنها مصر تأخذ على عاتقها مهمة تحقيق توازن الاقتصاد والتشغيل الكامل، ثم ساهم فى ذلك أيضًا مقتضيات الاستثمارات العامة الكبرى والإنشاء والتعمير ورفع وتحقيق معدلات تنمية اقتصادية لتصل إلى حوالى 5% العام الجارى وإلى 7% بحلول عام 2018 وبرامج التنمية الاجتماعية الطموحة أيضًا على حد السواء، إلى جانب زيادة الإنفاق العام العسكرى لمحاربة الإرهاب الداخلى والخارجى المصرى العربى المشترك، ما عضض الاتجاه التداخلى للسياسة المالية والنقدية معا، واستلزمت على وجه الخصوص التوسع فى الاستثمارات العامة الموجهة لتلك الأغراض بعينها، حتى أصبحت هذه الاستثمارات فى مصر تشكل نسبة مرتفعة من كل من الميزانية والاستثمارات الكلية والدخل القومى لعام 2015/2016، وقد أكد التوسع فى هذه الاستثمارات العامة عمق التطور الفكرى الذى لحق السياسة المالية والنقدية فى مصر فى العاميين الماضيين حتى ولو شكل العجز الداخلى نسبة كبيرة من الدخل القومى مؤقتا، إلا أن الأمر غير مقلق لما له من آثار إيجابية متوقعة فى المستقبل القريب من العائد الإيجابى لتلك الاستثمارات العامة.
عسى فى النهاية أن يعود هذا التطور الإيجابى فى السياسات الاقتصادية الكلية وعودة الدولة الإيجابية بالنفع على الشعب المصرى فى أسرع وقت ممكن، لتنعم مصر بثمار ما تحاول أن تحققه من تغيرات سياسة واقتصادية واجتماعية ويسترد الشعب حقوقة مقابل التضحيات التى قدمها خلال الخمس سنوات الماضية وما قبلها، وهنا يحق لنا جميعًا أن نطالب الدولة بمنحة عيد العمال عن حق واستحقاق لارتفاع معدلات الإنتاج والتشغيل وليس صدقة تقدمها الدولة فى شكل إعانة فقر للمواطنين.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة