من أكثر الأساليب التى تكررت فى كتاب الله أسلوب الاستفهام، ما يزيد عن مائتين وألف سؤال أغلبها أسئلة يسألها الله سبحانه وتعالى لخلقه، الأصل فى أسلوب الاستفهام فى كلام العرب أنه يستعمل للاستفهام عن أمر يجهله السائل وهو فى التعريف: طلب خبر ما ليس عندك، أو هو طلب الفهم. هذا من حيث الأصل ولا شك أنه بهذا المعنى -طلب العلم أو الفهم - يستحيل فى حق الله سبحانه وتعالى عن كل نقص، لكن قد يستعمل الاستفهام على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة كقول أحدنا لغيره كم مرة حذرتك من كذا أو نبهتك لكذا، السؤال هنا بلا شك لا يراد منه حقيقة الاستفهام عن عدد مرات التحذير بل المراد منه مثلا فى هذا السياق لفت النظر لسابق التنبيه واللوم على الوقوع فيه رغم ذلك التحذير المتكرر ولله المثل الأعلى .
فى السياق القرآنى يتجلى هذا النوع من الأسئلة بشكل واضح وأسلوب يتميز به القرآن وينبغى الانتباه له وفهم مقاصده بشكل تفصيلى لإدراك الرسالة القرآنية المرادة بهذا الكم الهائل من الأسئلة ، أحيانا يأتى الاستفهام القرآنى ويقصد به التعجب من فعل معين كقوله تعالى: {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم} (البقرة:28) . وأحيانا يأتى الاستفهام ويراد به العتاب واللوم كقوله تعالى: {ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق} (الحديد:16)، وقد فهم الصحابة هذا المراد فقال ابن مسعود رضى الله عنه: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية إلا أربع سنين! وقد يرد الاستفهام ويراد به النفى كقوله تعالى: {أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} (يونس:99)، أي: أنك لا تكره أحدا على الدخول فى زمرة المؤمنين، استفهام يراد به الأمر والطلب كقوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} (المائدة:91)، أى: انتهوا عن شرب الخمر وقد تجاوب الصحابة مع هذا السؤال قولا وفعلا ، أما القول فإجابتهم: انتهينا يا رسول الله وأما الفعل فإراقتهم للخمر لتجرى مغرقة شوارع المدينة النبوية الشريفة. أيضا يأتى الاستفهام القرآنى ويقصد به الترغيب والحض على فعل معين كقوله تعالى: {من ذا الذى يقرض الله قرضا حسنا} (البقرة:245). وقد تفاعل أحد الصحابة مع هذا السؤال يقال له أبو الدحداح فقال لما سمعه أويستقرضنا ربنا ثم ترجم تفاعله القولى لتفاعل عملى أيضا فتصدق ببستان كامل كان يمتلكه وقال البستان قرض لله! ونحو ذلك قوله سبحانه: {وليعفو وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم} (النور:22). وهو السؤال الذى تفاعل معه سيدنا أبو بكر الصديق رضى الله عنه فعفا عن مسطح وأجرى نفقته .
بالطبع هناك نماذج أخرى كثيرة من مقاصد الاستفهام فى القرآن منها الإقرار والإخبار ومنها والتخويف كقوله تعالى: {وما أدراك ما الحاقة} (الحاقة:1-3) ومنها التفخيم والتعظيم كقوله سبحانه: {وما أدراك ما عليون) ومنها التنبيه والدعوة للتفكر كقوله تعالى: "أفلم ينظروا فى ملكوت السماء والأرض" وهناك استفهام يقصد به التكثير كقوله تعالى: {وكم أهلكنا من القرون) .
الملاحظ أن جُل هذه الأسئلة القرآنية لم ترد إجاباتها بين دفتى المصحف فالحقيقة أنها رغم عدم كونها أسئلة طلب علم كما سبق وبينا إلا أن رب العالمين يريد لعباده أن يجيبوها ويتفاعلوا معها كما رأينا فى كثير من النماذج السابقة التى اشتركت فى أمر تحدثت عنه فى مقال سابق وهو إحساس أصحابها بأنهم مخاطبون بتلك الأسئلة، وأن رب العالمين يسألهم هم.. يستبطئهم هم.. يعاتبهم هم.. ينهاهم هم.. يذكرُّهم هم، من هنا شعروا أن عليهم أن يجيبوا ، ومن هنا أثنى النبى على الجن حين سمعوا آيات من سورة الرحمن فكان تفاعلهم أفضل من تفاعل الصحابة مع السؤال القرآنى ولذا قال : " لقد قرأتها على الجن ليلة الجن ، فكانوا أحسن مردودا منكم ، كنت كلما أتيت على قوله : ( فبأى آلاء ربكما تكذبان) = قالوا: لا بشيء من نعمك -ربنا- نكذب فلك الحمد" ، هكذا ونحن بين يدى رمضان وقبل أن يحدث المعتاد ويصير مجرد الترتيل هو مقصد البعض علينا أن تدبر هذا التعامل مع هذا الجزء المهم من أجزاء الخطاب القرآنى ، جزء السؤال ، السؤال الذى يستلزم تفاعلا وجوابا فهل من مجيب ؟!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة