بالطبع حين يُذكر التنفير فإن أول ما يسارع إلى الذهن هى تلك الصورة النمطية التى جرى ترسيخها عبر عشرات الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية، لذلك الداعية غليظ الملامح خشن الصوت الذى لا يتحدث إلا عن الموت والقبر، كما تظهره تلك الأعمال بشكل متكرر، وهذه فى رأيى صورة ساذجة وبعيدة عن حقيقة الدعوة وحقيقة التنفير شرعا وواقعا، فليس المنفر من تحدث عن الموت، وذكر الناس به فعنه تحدث النبى صلى الله عليه وسلم، بل وأمر بتذكير الناس به، بل الإكثار من ذلك كما فى قوله: «أكثروا من ذكر هادم اللذات» لعل الغافل ينتبه ولعل البعيد يقترب ولعل العاصى يسارع بتوبة. ليس هذا تنفيرا فى ذاته، وإن كان من الممكن أن يصير تنفيرا، إن وضع فى غير موضعه أو تم الإسراف فى تناوله، ولكنه حينئذ يستوى بكل ما يتم الإسراف وما زاد عن حده فانقلب لضده. وأيضا ليست الهيئة أو نبرة الصوت أو سائر الأمور الخلقية التى لا دخل للمرء فى اختيارها، مما يعد تنفيرا فى نظرى، اللهم إلا إن كانت المعايير قد اختلت للدرجة التى يُفرَّغ فيها الكلام من محتواه ويحكم على الناس بمظاهرهم وأشكالهم الخارجية، التنفير فى رأيى أمر مختلف وأعمق بكثير من تلك المعايير المسطحة.
حديثى عن التنفير يشمل أولئك الوعاظ أصحاب النية الحسنة والخطاب ذا المحتوى المنفر، حتى وإن غلب عليه الصوت الحسن وغلفته أجمل الأساليب، خطاب يتحرى أقسى الأقوال وأشد المذاهب دون أى اعتبار لأقوال مخالفة أو مذاهب مغايرة تستند هى الأخرى إلى أدلة ربما قد تكون أصح وأحكم من أدلتهم، أولئك الذين يعلمون الخلاف فى المسائل، والسعة التى تحويها ويقدرونه ويدركون وجوهه ومناطاته، ومع ذلك يصرُّون على نفس الخطاب الذى يعتمد بشكل أساسى على هذه المسائل الخلافية، وكأنها أصول الدين وغايات الالتزام وحقيقة التدين، وكأن من يأخذ بأقوال مخالفة لأقوالهم فيها قد وقع فى أكبر الكبائر، وانتهك أعظم الحدود وخاض فى بحار المحرمات، ويتهمون من يناقش تلك المسائل بشكل علمى متجرد بأنه متفلسف بارد أو مميع لدين الناس مدمر لالتزامهم، أولئك حقا من أخشى عليهم ولا أدرى بأى وجه يتعذرون أو يُعذرون وهم يعلمون ويفقهون ويدركون. والأهم أنهم يعرفون تلك الحقيقة الشرعية الحاسمة، حقيقة أن تحريم الحلال قد لا يقل سوءا عن تحليل الحرام، حقيقة يعضدها ما لا يحصى من الوقائع والشواهد رأينا فيها مآلات الخطاب التنفيرى المُضيِّق على الخلق الذى يؤدى فى النهاية بالشخص إلى احتقار نفسه وازدرائها حين تقع فى شىء من تلك الأمور التى غرسوا فيه دوما أنها أصول التزامه وأعمدة تنسكه إن كُسرت فقد كُسر دينه، من ثم يتفلت الشخص الذى كان يوما يسمى ملتزما ويمضى لحال سبيله، وقد ظن ألا فائدة منه ترتجى ولا أمل فى إصلاحه يُبتغى، وكل ذلك لأجل أمور فيها سعة أو على أقصى تقدير تعد من صغائر الأمور، وقد كان فقط بحاجة إلى أن يدرك ذلك كيلا يحتقر ذاته ويكرهها ويفقد الأمل فيها، وكيلا يغلب عليه ذلك الشعور بالتأثم والحرج واتهام النفس بالوقوع فى أسر حب الدنيا والتعلق بزينتها، الذى يصيب بعض المنتسبين للالتزام والاستقامة عند تذوقهم لشىء من الجمال المباح، عند تأثرهم بمشهد بديع أو طرب نفوسهم بنسمة عليلة أو لوحة جميلة أو قصيدة بليغة أو رواية ماتعة أو حتى تلذذهم بوجبة هنيئة، تأثم وحرج وعنت وندم وجلد للذات فقط، لأنها تجرأت وتذوقت الجمال ثم أعجبت به.
هذه المشاعر فى غير موضعها هى من أعظم ما جناه أولئك المنفرون الذين يفسدون من حيث يظنون أنهم يصلحون، أولئك الذين يصرون على تحويل نفوس الملتزمين لصحارى جرداء منزوعة البهجة مطموسة الفطرة، تلك الفطرة التى جبلها مولاها على حب الجمال وجعل لها نصيبا مباحا للاستمتاع به «قُلْ هِىَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ، «كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»، تأمل لقوم يعلمون، هذا هو المعيار الحقيقى الذى به تنضبط الأمور ويعرف المنفر من المرغب ويتمايز الداعون إلى الله معيار العلم.