الذين تخلوا عن وقارهم على الـ«فيس بوك»
أى مراقب طبيعى لشكل وطبيعة الحوارات المقطوعة على مواقع التواصل، فيما يخص أى أزمة سياسية أو اجتماعية، وآخرها أزمة الصحفيين مع الداخلية، يكتشف كيف حلت الشتائم مكان الحوارات، وكيف تخلى البعض عن وقاره طمعًا فى نجومية افتراضية.. أصبحنا أمام ديكتاتورات، كل منهم يتمسك برأيه، ويظن نفسه خبيرًا فى كل شىء، والخطر أن هذا الفيروس أصاب فئات يفترض أن دورها نشر الحوار، ومنح حق المجتمع فى المعرفة، لنكتشف أن عصر المعلومات والسماوات المفتوحة لم ينتج حتى الآن «أدمغة» مفتوحة، فقط ديكتاتورات ذاتية، فارغة الصبر، وذات شعور بالتعالى، والتمسك بيقين عميق وحاسم لاينتظر تدخلًا.
اتسعت الحالة «اليقينية الاستعماقية» وانتقلت بعدواها إلى أكاديميين وخبراء تخلوا عن رصانتهم لصالح الـ«لايك» و«الشير»، والنتيجة أن المتابع يعجز عن التفرقة بين مفكر وناشط، أو خبير وأكاديمى، وباحث عن «اللايكات»، والمستخدم يتوه أو يتحول إلى خبير بالسمع وتشجيع الـ«لايك».كنت أناقش بعض الأصدقاء عن انتقال فيروس الشتائم والاستخفاف إلى كبار «المفيسين»، بما أفقدهم وقارهم وأدخلهم فى «هلام الاستكناه السوشيالى»، فتجد أكاديميًا ورجل قانون دخل على الـ«فيس بوك»، وكان يكتب «بوستات» متوازنة، يركزها فى القانون، لكنه اندمج فى الجدال السياسى، وأغرته الإفيهات، وتخلى عن هدوئه، واندمج فى تعليقات جاذبة لـ«اللايكات»، وبدأت الاشتباكات والشتائم، الأمر الذى أغضب الأستاذ وهدد بالمغادرة، ولم يدرك أنه مادام تخلى عن وقاره، فعليه أن يتحمل مع «اللايكات» واللعنات.. طبعًا لم ينفذ تهديده، وبقى داخل هلام الانفصال التواصلى.
لم يكن الدكتور حالة خاصة، هناك خبراء وكتاب تخلوا عن وقارهم تحت إغراء الإعجاب، وبعضهم أصابه فيروس «الافتراضية المزدوجة»، تراه على «الفيس» بشكل إفيهاتى كاجوال، وفى التليفزيون بشكل مخطط محلل مفسر، وفى الحياة تجده شخصًا ثالثًا، منطقيًا أو غير منطقى، حسب جمهور الحضور.. بعض هؤلاء تخلوا عن وقارهم، واندمجوا فى حالة إفيهات أو شتائم أو استعمال ألفاظ بذيئة، وإيحاءات حصلوا بها على إعجاب الجيتوهات، وضربهم فيروس الضجة واليقين والفهم فى كل المجالات، وكل منهم الفاهم العلامة والخبير الفهامة، يعرف كل شىء، ولا يرضى عن أى شىء، غضوب متعمق مصاب بالفصام السوشيالى، والبارانويا التى تنتجها لايكات تفرغ كبتًا أو غيظًا أو شعورًا بـ«الذيلية».
شخصيًا تناقشت مع بعض أصدقاء يفرطون فى التلميحات والشتائم والإيحاءات وملاسنات وردح أحيانًا، على عكس طبيعتهم، بعضهم برر بأنه ما أن ينزل ساحة الـ«فيس بوك» يندمج فى الحالة، وبعضهم قال إنه يضطر لمواجهة الشتائم بمثلها، لكن أحدًا منهم لم يبرهن على أن الشيمة والايحاءات لا تجعل كلامهم أكثر إقناعًا، أو أنها تصنع حوارًا، والنتيجة أننا أمام حالة من التلاسن لا علاقة لها بالسياسة، وتجعل أدوات التواصل مجرد ساحات للصراع والصراخ، والتقاتل الافتراضى ضمن حوار طرشان.