الانبا ارميا

"بلا جدران !"

الإثنين، 13 يونيو 2016 11:00 م

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
"سمعتُه يردد فى صوت يشبه كثيرًا أمواج بحر متلاطمة لا تعرف الهُدوء والسلام: أشعر بقيود تحاصرنى فى كل مكان، قُيود لا يراها البشر ولٰكننى أتلمسها مع كل شهيق وزفير، قُيود تجعلنى أقرب إلى السجناء عن الأحرار؛ فأنا أشعر أننى فى سجن بلا حراس، أو قُضبان، أو جدران! أريد أن أتحرر".

وعلى الفور تبادرت إلى ذهنى كلمات الزعيم "نيلسون مانديلا": "أن يكون الإنسان حرًّا لا يعنى مجرد تحرره من الأغلال التى تقيده، بل أن يعيش بطريقة تحترم حرية الآخرين وتعززها"؛ ففى الوقت الذى كان يعيش "مانديلا" فى السجن، كانت آماله وأفكاره محلِّقة تعرِف الحرية، وتنطلق أصداؤها فى كل العالم، فى حين لا يزال كثيرون يسيرون درب الحياة وهم سجناء: يأسهم، أو مخاوفهم، أو عادات تسلطت عليهم، أو ذواتهم؛ فيحيَون فى سُجون صنعوها لأنفسهم، سُجون بلا حراس .

إن الحرية الحقيقية ليست حرية الإنسان فى التحرك أينما شاء فى الوقت الذى يرغبه فقط، بل هى تلك الحرية التى تسرى فى أعماقه، وفى طريقة حياته، وفى أفكاره، إنها تلك الإنسانية التى يحتويها فى داخله ويراها الجميع متجسدةً فى أفكاره وسلوكه.

وفى هٰذه الأيام الروحية التى تمر بالمِصريِّين جميعًا فى قضاء "صَوم رمضان" والاستعداد لـ"صَوم الرسُل"، يُمنح كثير من البشر تلك الفرصة الذهبية لتحطيم قُضبان سُجون صنعوها لذواتهم ويعيشون فى قسوة مشاعرها. إن فى الصَّوم ينطلق الإنسان من العيش فى نطاق الجسد والاهتمام بالطعام والشراب إلى السُّمُو بالنفس والروح فى عَلاقة رُوحية بالله ـ تبارك اسمه، فى صلوات وابتهالات تهب للنفس سلامًا عميقًا لا يهتز مهما بدت اضطرابات العالم؛ فينطلق من أسر المخاوف والقلق إلى حرية بلا نهاية !

والصَّوم هو أيضًا فرصة للتوبة عن الخطايا التى تكبل حرية الإنسان وتجعله أسيرًا لها، فكما أن الجسد يصوم عن الطعام والشراب يمكنه أيضًا الإقلاع عن العادات التى تجلب إليه الأضرار والألم مثل التدخين وغيره. وحين تصوم النفس، نجد القلب يتدرب على الابتعاد عن مشاعر الغضب والحسد والبغض، والعقل يصوم عن الأفكار الخاطئة وغير الإيجابية، والإرادة تتدرب على أعمال الخير؛ وهٰكذا يتحرر الإنسان خُطوة تَلو الأخرى فى جهاد وتعب وكد رُوحيّ، مرتقيًا بحياته فى معيَّة الله نحو بركات عظيمة ممتدة .

ومن خلال الصَّوم، ينطلق الإنسان من سَجن ذاته ودائرة اهتمامه بنفسه فقط إلى الاهتمام بالآخرين؛ فيشعر بهم وبحاجاتهم، وتتعمق فيه إنسانيته العظيمة التى وهبها الله له من أجل أن يتشارك البشر جميعًا تلك المشاعر الفياضة من الود والمحبة والرحمة. فما أتعس تلك الأنفس التى تسجن ذواتها فى حاجاتها وآلامها وظُروفها فتَضيق بها الحياة! وما أبهج النفوس التى تُدرك معنى السعادة وهى تنطلق متحررة من سَجن ذواتها! إن السعادة الحقة تأتى بمشاركة الأحزان وتقاسُمها فتخف وطأتها عن النفس، وتشارُك الأفراح فتسرى السعادة بين الجميع.

كل عام وجميعكم بخير، مصلين إلى الله أن يقبل الأصوام والصلوات والابتهالات، وأن يحفظ "مِصر" والمِصريِّين فى أمن وسلام .

• الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى.





مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة