عودة الدراما التليفزيونية لمجدها هذا العام أمر حيوى ويعيد لمصر قوتها الناعمة من جديد
قولا واحدا، بعيدا عن (كلاكيع) النقد الفنى، وتفصيلاته التى يسكنها الشيطان، نؤكد أن الفنان عمرو سعد، مدهش ومبهر، فى دور يونس ولد فضة، واستطاع أن يؤدى دور الصعيدى القاطن فى عمق الصعيد الجوانى بكل التفاصيل من لهجة، وأداء، وتعبيرات وجه، ومظهر بالجلباب البلدى، وكأنه أتولد وعاش فى قرية (السمطا) بمركز دشنا محافظة قنا، أو قرى (حمرادوم وأبوحزام) فى مركز نجع حمادى.
كونى أحد أبناء (دشنا) محافظة قنا، وأعلم تفاصيل شخصية أبناء شمال المحافظة، أؤكد أن عمرو سعد استطاع أن يقدم شخصية الصعيدى الجوانى بكل تفاصيلها، للدرجة التى شعرت معها أن أشقائى، أو أبناء عمى أو أبناء خالى، هم الذين يتحدثون بلهجتهم (وإفيهاتهم) وتعبيرات وجوههم.
عمرو سعد، يليق فى جلباب الصوف البلدى، لأن هذا (الجلباب)، ثقيل على من يرتديه، مثل (تيشرت) النادى الأهلى، لا يمكن لمن يرتديه، أن يؤدى بشكل رائع ومقنع ومبهج، إلا إذا كان موهوبا وفذا، وهو ما أظهره الفنان العبقرى عمرو سعد، حتى الآن.
الدراما الصعيدية معقدة إلى أبعد حد، وأسباب تعقيدها، تعدد ثقافاتها بشكل يستعصى على الجهاز المركزى للتعبئة والإحصاء، أن يحصيها، فيكفيك أن تعلم أن التنوع والاختلاف الثقافى، تختلف من قرية إلى قرية لا تبعد عنها 50 مترا فقط، داخل حيّز المركز الإدارى الواحد، فى المحافظة الواحدة، حيث تجد اللهجة، والعادات والتقاليد، وطريقة الاحتفال بأفراح العرس، أو مراسم العزاء، وطريقة ارتداء الجلباب، و(لف) العمامة، مختلفة، ومن ثم فإن لكل قرية، ومركز ومحافظة، خصوصيتها، وثقافتها المختلفة كليا عن بعضها البعض.
وخطيئة الدراما الصعيدية قبل ظهور المؤلف الصعيدى الراحل محمد صفاء عامر (ابن محافظة قنا)، أنها كانت بعيدة عن واقع المجتمع الصعيدى، بٌعد السماء عن الأرض، وسادها التعميم، فخرجت مشوهة، بلهاء، حتى جاء مسلسل (ذئاب الجبل) عام 1994، عن قصة ترصد واقعا حقيقيا على الأرض، يتمثل (فى عادات وتقاليد قبائل الهوارة بشكل عام، وهوارة البلابيش بشكل خاص التى تقطن مراكز وقرى شمال محافظة قنا وجنوب محافظة سوهاج) ليقلب الموازين، ويلقى الضوء على المجتمع الصعيدى، بأحد وجوهه الثقافية، وليس بوجوهه المتعددة التى لا يمكن أن نحصيها، فنجح بشكل مذهل لدرجة أن الشوارع كانت تخلو من المارة عند إذاعته، وأعقبه مسلسل (الضوء الشارد)، ثم (حدائق الشيطان)، وكلها أقرب للواقع الصعيدى الحقيقى. ثم سار على النهج، المؤلف الصعيدى عبدالرحيم كمال ابن (محافظة سوهاج)، وقدم لنا تحفته (مسلسل الرحايا) والذى قدم خلاله ثقافة وعادات وتقاليد ولهجة أبناء سوهاج، ثم قدم مسلسل (شيخ العرب همام) بطولة يحيى الفخرانى، عن واقع حقيقى لثورة (كبير قبيلة هوارة الهمامية) والتى سبقت الثورة الفرنسية، فحققت نجاحا مذهلا، ثم كان المسلسل الذى يذاع حاليا (يونس ولد فضة) الذى يقدم فيه كل من عمرو سعد، والفنان أحمد حلاوة، أروع أدوارهما على الإطلاق، من وجهة نظرى.
الخطأ الوحيد فى مسلسل (يونس ولد فضة) فى بعض الكلمات، خاصة كلمة (مليحة) لأن أبناء شمال قنا لا ينطقون كلمة (مليحة) وإنما يقولون على الشىء الجيد (زين أو كويس للمذكر، وزينة أو كويسة للمؤنث)، وهى عكس كلمة (عفشة) أما دون ذلك، فقد نجح عمرو سعد فى تشديد قبضته على اللهجة الصعيدية الحقيقية لمنطقة شمال قنا بكل قوة، وبأداء عبقرى، كما قدم عبدالرحيم كمال، شخصية عم يونس الذى يؤديها الفنان أحمد حلاوة، بطريقة اللهجة والأداء بشكل عبقرى، ولأول مرة فى الدراما الصعيدية بشكل عام، لذلك خرج المسلسل مقنعا ومُبدعا وبارعا، دراميا وأداء تمثيليا.
أما يسرا وسيد رجب، فى مسلسل، فوق مستوى الشبهات، فشكلا ثنائيا رائعا، فى تشريح الواقع الذى نعيشه، من نفوس معقدة، وكلام وملامح وجوه لا تعكس ما بداخل الإنسان، كما وضعا أيديهما على موطن الداء فى المجتمع المصرى، من انتشار جرائم الخيانة، والمؤمرات، والأحقاد الدفينة، والغش والكذب، وهى أمراض خطيرة للغاية تهدد استقرار المجتمع، وتفسد منظومته الأخلاقية. كما أظهر المسلسل، دور التكتولوجيا الحديثة فى انتشار وتعقيد جرائم الخيانة والغش والخداع والقتل، فى نفس الوقت الذى أظهر فيه دور التكنولوجيا الكبير فى تسهيل وتيسير اكتشاف خيوط هذه الجرائم بكل قوة، وهى معادلة عجيبة فى علم الجريمة الإلكترونية.