كانت المعركة وستظل مع الشروط التى تسمح بوجود قصيدة النثر مزدهرة مقروءة متلقاة تلقيا إيجابيا فاعلا، ونقول إننا نرى هذه الشروط الآن منعدمة أو تكاد تنعدم، رغم أن قصيدة النثر تمثل حاليا المتن الشعرى العربى، فكل مظاهر التفكير الحر وممارسة الحياة الحقة غائبة فى محيطنا العربى، كل ما يحدث الآن ضد قانون قصيدة النثر، الذى هو، علامة التغير والتبدل والتجدد ونشدان الإضافة، وما نواجهه جميعا شعراء وكتابا ومثقفين من مناخ الاستقطاب السياسى أو الحروب الأهلية أو حصار الثقافة والإبداع من المتطرفين المهووسين من ناحية، وممن ينصبون أنفسهم حراسا للأخلاق من ناحية أخرى، لابد أن يوجد المناخ غير المواتى للإبداع أو التلقى الإيجابى الفاعل، وربما هذا ما جعل مجلة شعر تصدر ثلاثة أعداد فقط خلال سنوات ثلاث، ثم تتوقف على أمل دائم بالعودة للتعبير عن القصيدة فى كل تجلياتها وأحلامها.
تواجه الشعرية العربية الآن أزمتين كبيرتين، أولاهما تتمثل فى غياب دور النشر المتخصصة والمعنية بنشر الشعر فى البلدان العربية، خاصة تلك الدور التى تراهن على التجارب الجديدة، فعلت ذلك سابقا دار الآداب فى بيروت برهانها على شعراء التفعيلة، وفعلت ذلك جزئيا دار رياض الريس برهانها على الأصوات التى تلت رواد قصيدة التفعيلة، وفعلت ذلك دار الجديد التى حرثت الأرض العربية من المحيط إلى الخليج وقدمت مئات الإصدارات الشعرية للأجيال الشابة والتجارب الجديدة الطليعية، ولكن بعد تخلى «الآداب» عن مواكبة التطور الشعرى وقلة الإصدارات الشعرية من «رياض الريس»، وبعد مرور دار الجديد بضائقة أثرت بالسلب على مشروعها الطموح لم يعد لدينا دار نشر واحدة فى العالم العربى نستطيع الإشارة إلى أنها تقف إلى جانب الإبداع الشعرى وحركة تجديده أو تسهم فى صنع مناخ مساند له، بل كل ما هنالك صناعة نشر عشوائية تراهن على الربح وتروج لمقولة إن الشعر خاسر بالنسبة لدار النشر، ومن ثم لا يجد الشعراء فى بلادنا التى مازالت تتبنى مركزية الثقافة والنشر، إلا الدور الحكومية التى تفرض معايير لا علاقة لها بالشعر أو الإبداع، مما يكرس لكل ما هو ضد الروح الشعرية مثلما يكرس للتدجين والخوف وكبح المعنى والرقابة الذاتية وغيرها من أشكال القمع الداخلية والخارجية.
أما الأزمة الثانية التى تواجهها الشعرية العربية فهى صناعة النقد، وأظن أن النقد الحق للشعر فى بلادنا العربية يدخل ضمن الأشياء النادرة، وهذا الغياب جزء من منظومة تشكل حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية، حياة تغيب عنها سمات الحياة، فليس من الغريب أن يتحول النقد إلى نوع من الرطانة غير المفهومة، أو المتابعات الصحفية السريعة، لا ابتكار ولا تحليل ولا قدرة على الاستشراف واكتشاف السياقات التى يبدع خلالها الشعراء، بل على العكس فالشعراء يذهبون إلى مناطق بكر فى قصائدهم والنقاد بروح أصولية عجيبة يجترون مقولات قديمة ويصطنعون قوالب يتخيلون أنها تستوعب هذا الحراك المستمر.
أكتب لأعرف ما يطرأ على خيالى وأفكارى وما يتنامى فى وعيى، أكتب انطلاقا من رغبة عيش الحياة لا مراقبتها، فأجدنى أراقبنى وأنا أراقب الحياة، ثم أجترئ تدريجيا على عيشها، أكتب إعجابا بقدرات مجهولين وبشر عاديين بسطاء على ممارسة الحياة حتى آخر قطرة، أذهب وأقف طويلا أمام صبى الخباز الذى يضع الأرغفة الساخنة على أقفاص بانتظام، أو أمام عامل المقهى وهو يحدق فى مساحة صغيرة من الأرض لابد أن تكتسى بالكامل بالمياه، فى هذا الطقس البسيط اليومى بالنسبة لواحد من العامة، نوع من الإنجاز والعمل، وأنا أريد أن أحقق ذلك بقصيدتى أو فى قصيدتى.
أحيانا يملؤنى يقين بأننى لست موجودا خارج القصيدة، لست فى البيت، لست فى دوامات العمل، لست من يداعب طفله، لست من ينام ويحدق فى الفراغ، لست من يتحرك ويلقى التحيات هنا وهناك، يملؤنى شعور بأننى لو لم أكتب ستنسحب الحياة منى، فأتمادى فى عدم الكتابة، لكن فى اللحظة الأخيرة أندفع إلى القصيدة كممارسة وحيدة أجيدها، بينما أمضى فى الحياة، كمن يقف أمام قطار الدلتا البطىء بدافع اليأس، ثم يلقى بنفسه جانبا فى اللحظة الأخيرة.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة