حاول أن تستكشف أى تجربة من تجارب النهضة العالمية، وستجد أن الاهتمام بالتعليم والثقافة أتى على رأس أى مشروع تنموى أو تطويرى، فبلا تعليم لا وجود للمستقبل ولا ثقافة ولا وجود للإنسان، وإذا ما فكرت يوما فى كيفية بناء «إنسان المستقبل»، فما عليك إلى الإعداد لبرنامج ثقافى وتعليمى مناسب لهذا، أما إذا أردت أن تدمر هذا الإنسان فما عليك إلا أن تجهز على العملية التعليمية والثقافية تماما، وهو ما يحدث الإنسان بكل حماس فى الأزمة المعروفة إعلاميا باسم «تسريب امتحانات الثانوية».
للأسف وصفت الدولة الأزمة بطريقة خاطئة، ولهذا كان العلاج منذ البداية خاطئا، فالأمر لا يخص وزارة التربية والتعليم، وكذلك لا يتعلق بمصير وزارة أو مسؤولية وزير، فتلك الأزمة تخص مصر كلها، وكان من الواجب أن يتم التعامل مع هذه الأزمة منذ نشأتها، باعتبارها «قضية أمن قومى»، وأن تكرس الدولة مجهودها من أجل القضاء على هذه الظاهرة فى مهدها، فتلك القضية لا تشوه سمعة مصر فحسب، وإنما تشوه مصر نفسها، تشوه مستقبلها، تفرغ المستقبل من محتواه، وتفرغ الأجيال القادمة من «القيمة».
نعم التعليم فى مصر ليس على ما يرام، لكن المؤلم أن يتم تدمير «نص العما» فى الوقت الذى نحاول فيه أن نصل إلى النور، مجاهدين على ألا نقع فى «العما كله»، فتسريب امتحانات الثانوية العامة يعنى أن هناك شخصا ما قد قرر أن تعيش مصر بلا مستقبل، عن طريق المساواة بين الذين اجتهدوا والذين لم يجتهدوا، الذين تعبوا والذين لعبوا، الذين هاموا على وجوههم طوال العام ما بين مكتبة ومدرسة ودرس، والذين ناموا على آذانهم طوال العام لا يعبأون إلا باللعب والهزل.
تتوالى أخبار التسريبات ولا يقف أحد أمام هذا السيل المنهمر، يزيد المسربون فى تسريباتهم، ويصلون إلى مرحلة الغرور المطلق، وكأنهم محصنون ضد أى شىء، يتبجح أحدهم على مؤسسات الدولة، ويتمادى آخرون فى ألاعيبهم الصبيانية، والدولة تقف مكتوفة الأيدى، وهو ما يؤكد أن جاهزية مؤسسات الدولة للمعارك غير المتوقعة بحاجة إلى مراجعة وضبط أداء، كما أنها بحاجة أيضا إلى أن تغير من طريقة إدارتها للأزمات، فأزمة تسريبات الثانوية العامة ليست أزمة أسعار نعانى منها منذ ولادتنا، ولا هى أزمة «ياميش رمضان» التى تتجدد كل عام، لكنها أزمة مستقبل يترنح تحت ضربات الكيبوردات، جيل يتم تجهيله تماما، ليكون مثل الهاموش الذى يتلاعب به الريح أو أشد تفاهة، وإن لم تنتفض مؤسسات مصر من أجل الحفاظ على مستقبل مصر، فلا أمل فى شىء.
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة