تجميد المشروع الأمريكى لنشر الفوضى بالمنطقة
تراجع تركيا أردوغان عن سياستها العدوانية بالمنطقة يبدو مفاجئا للكثيرين، فبعد أن كانت أنقرة تلعب دورا كبيرا فى الأزمات والحروب الأهلية فى سوريا والعراق وليبيا، وتدخل فى مناوشات سياسية مع روسيا وإسرائيل، وتتدخل فى الشؤون المصرية سياسيا وعسكريا بدعم الإرهابيين والمتطرفين بالأسلحة والأموال عبر البحر، إذا بها تتحول مائة وثمانين درجة، وتبدأ تبريد جميع الجبهات التى أشعلتها خلال السنوات الماضية.. تقدم اعتذارا صريحا إلى الرئيس الروسى، وتبدى استعدادها لدفع تعويضات عن إسقاطها طائرة السوخوى فى الأجواء السورية، وتعقد صفقة سياسية مع إسرائيل تبيع فيها غزة مقابل تطبيع العلاقات مع الدولة العبرية، وتطلق تصريحات دافئة عن بدء صفحة جديدة من العلاقات مع مصر، واعتبار قضية محمد مرسى المعزول مسألة جانبية، على أساس أن الحياة تمضى، حسب تعبير رئيس الوزراء التركى بن على يلدريم، ظل أردوغان على الأرض!هل استفاق أردوغان فجأة، واكتشف أن سياساته الرعناء تكلف بلاده الكثير سياسيا واقتصاديا، وتفرض عليه العزلة فى المنطقة؟، أم أنه كان يراهن على مشروع سياسى يخص تركيا فى المنطقة، وفشل هذا المشروع، فكان لزاما عليه أن يعيد حساباته، ويفكر من جديد فى خطواته السياسية بالمرحلة الجديدة خوفا من السقوط المدوى؟
المراقب لتحولات الأمور فيما يخص الشرق الأوسط وأوروبا من ناحية، والمنطقة العربية وعلاقتها بأوروبا من ناحية أخرى، لا بد أن يأخذ فى اعتباره عاملين أساسيين دفعا أردوغان تركيا إلى هذا التحول الجذرى فى سياساته الخارجية، الأول العامل الأمريكى، وتجميد مشروع الفوضى الخلاقة للشرق الأوسط والمنطقة العربية، وثانيهما العامل الأوروبى، والخلاف الجذرى مع أنقرة حول ملف اللاجئين.
فيما يتعلق بالعامل الأمريكى، جاء تجميد مشروع الفوضى الخلاقة فى البلاد التى عصفت بها رياح الحرب الأهلية، والبلاد التى كانت مرشحة لها، ليقلص إلى حد كبير الدور التركى فى هذا المشروع السياسى الضخم الذى رصدت من أجله ميزانيات بالمليارات، وكانت أنقرة والدوحة تتوليان فيه دور التنفيذ على الأرض، بدءا من استقطاب المرتزقة من جميع بقاع الأرض الفقيرة، وتدريبهم وتسليحهم ثم إرسالهم إلى البلاد المراد نشر الفوضى بها، وكانت تركيا تحظى فى هذا المشروع بالدعم الكامل من واشنطن والناتو، وهو ما دفعها إلى الصدام مع قوى كبرى فى المنطقة، لكن الآن ومع تراجع الدعم الأمريكى ومساندة الناتو، وجدت أنقرة نفسها فى مأزق العزلة، أو حتى احتمال التعرض لعمليات انتقامية، الأمر الذى اضطرها إلى إجراء مناورة سياسية ضخمة للخروج من عزلتها، وتجنب خسائر ما بعد تجميد مشروع الفوضى الأمريكى.
أما فيما يتعلق بالعامل الأوروبى، فقد نشبت أكبر أزمة بين تركيا والدول الأوروبية بسبب مساومات أردوغان حول ملف اللاجئين، فالرئيس التركى يريد نحو ثمانية مليارات دولار من أوروبا مع السماح لتركيا بالحصول على عضوية الاتحاد مقابل احتواء أزمة اللاجئين، وفى المقابل تناور الدول الأوروبية الكبرى الرافضة لعضوية تركيا فى الاتحاد الأوروبى، وتسعى لخفض مبلغ تعويضات أنقرة مقابل منع اللاجئين من غزو أوروبا، لكن تراجع مشروع الفوضى الخلاقة، وبدء المساعى الأوروبية لتبريد الجبهات فى الدول المنكوبة لمنع فرار اللاجئين أصلًا، وإعادة الموجودين منهم إلى بلادهم من جديد، دفعت الدول الأوروبية إلى إعادة نظر فى الاستجابة لمطالب أردوغان ومساوماته، بل فرض نوع من العزلة عليه، وما موقف ألمانيا من الاعتراف بمذابح الأرمن إلا إشارة واضحة على بدء سياسات حادة من أوروبا تجاه أنقرة.
أردوغان يريد إذن النجاة من توابع جرائمه فى مشروع الفوضى الخلاقة، وتحالفه مع داعش، ومساعدته على تخريب سوريا والعراق وليبيا، كما يسعى إلى كسر عزلته الأوروبية، والحفاظ على مستوى النمو الاقتصادى لبلاده، والسؤال الذى يخصنا فى هذا السياق: هل نساعد أردوغان العدو اللدود على النجاة والنجاح أم لا؟، ولقاء أى ثمن؟