مع اقتراب شهر رمضان الكريم، أردت أن أفرد هذه السلسلة من المقالات والتى تتناسب مع هذا الشهر الفضيل، حيث يتعبد الناس كثيرا ونذكر المولى عز وجل كثيرا ونتأمل فى الكون وعظمة الخالق وقدرته. ولعل أحد أهم نعم الله على الإنسان هى نعمة العقل البشرى. هذا المكون العجيب الذى احتار فى تفسيره كل العلماء منذ أن نشأت الأرض وإلى يومنا هذا. وعلية ابدأ اليوم بتحليل البناء القديم وصورة البناء الجديد للتفكير الانسانى. فمن المفترض قبل أن نقيم البناء الجديد فى تفكير الإنسان المصرى المعاصر، يجب علينا أن نهدم كثيراً من الآراء القديمة مهما تكن عزيزة علينا ومن بعض تراثنا وعزيزة أيضاً على المفكرين الأوائل ومهما يكن صوابها واضحاً عندهم !. وإن كان كثيراً من هذه الآراء القديمة كانت وما زالت تعد من البديهات، إلا أن هدمها يحتاج إلى شجاعة وتحرر فى التفكير، وليس من السهل أن نقدم عليه ما لم نجد منها بديلا.
ولا شك أن الزمن المعاصر قد أضفى على الكثير من المذاهب القديمة شيئا من القدسية ليس من السهل أن نتغاضى عنها ببساطة. ولكن مع ذلك فإن البدء بهذا الهدم أمر لا مفر منه إذا أردنا أن نقيم بناء جديدا للعلم والمعرفة وللإنسان المصرى الحديث لكى نلحق بالمعاصرة. وهذه الآراء القديمة التى نريد أن نتخلص منها كثيرة، أهمها "العلة الغائية"، و"التفكير الثنائى" و"فهمنا للزمن"، و"تصورنا للحقيقة" و"النسبية". وسنعرض لهذا اتباعاً.. وسوف نخصص الجزء الباقى من هذا المقال "للعلة الغائية"، ثم نفرد مقالات أخرى للأربع موضوعات الباقية.
"العلة الغائية" هذا المذهب فى التفكير هو أوسع المذاهب ذيوعاً، وأكثرها عند المفكرين قبولاً وأشبهها بالحق وأقربها إلى طبيعة الانسان. ومما يدعو إلى اطمئنان النفس أن تعلم أن الأمور لا تحدث عبثاً أو إلى غير غاية. ويقوم هذا المذهب على تحديد أغراض بعينها تراد لذاتها، كأن الغاية تخلق الوسائل التى تؤدى إليها كما قال " ميكيافيلى " فى كتابه "الأمير" ولكن لم يتبين لأحد كيف تعمل الغايات نفسها على خلق الوسائل المسببة لها. إلا أن رجال الدين، رأوا أن الله عز وجل بقدرته يعمل على أن يكون العالم كله وسيلة لغايات بعينها، هى عندهم تمجيده تعالى وعمل الخير. أما علماء الاجتماع والإنسانيات فقد فرضوا أن قوة النظم الاجتماعية هى التى تعمل على تهيئة الأسباب لبلوغ غاية ما، هى عندهم خير المجتمع من الأخلاق وفضائل.
وكل من هؤلاء المفكرين يظن أنه يختلف عن نظرائه اختلافاً كلياً، والحق هم سواء فى تمكن مذهب العلة الغائية منهم جميعا. لم يختلفوا إلا فى معنى القوة التى تعمل على خلق الأسباب المهيئة لبلوغ الغايات. فتجد أن أكبر الملحدين من العلماء وأكثر المؤمنين بالله عز وجل كلاهما يدين بمذهب العلة الغائية ومعجب بمدهشات النظام الكونى الذى لا شك فى وجوده وقوتة وعظمته، وكلهم يرى أن الغاية وضعت أولاً ثم عملت قوة ما فهيأت الأسباب لتحقق الغاية، وكلاهما سواء فى تطابق الغايات ووسائلها. وكلهم يضعون الغاية أولاً ثم يبحثون عن النظام الذى أدى إلى تهيئة أسبابها: بحيث يأتى الخلاف فى أن احدهم ينسب ذلك إلى العقل أو الطبيعة، والآخر ينسب إلى المولى عز وجل، بحيث انتهى الأمر أن الفرق بين رجال الدين والفلاسفة والعلماء أقل بكثير جداً مما يظن الناس.
وعلى هذا الأساس فإذا كان الإنسان يستطيع أن يضع لنفسه غايات لأعماله وأن يهيئ بعمله وعقله، الذى وهبه الله إياه، الأسباب التى تؤدى إلى بلوغ هذه الغايات، فكيف بالقوى العليا إذاً أرادت أن تبلغ غاية بعينها !. فيقول رجال الدين أنه إذا كان لكل شيء بسيط صانع الصانع يصنع بعلمه وعقله فمن المقبول أن يكون الله جل جلاله وهو تمام العقل والحكمة والعلم والقدرة، قد دبر هذا النظام العجيب ليبلغ غاية أرادها. ويقول رجال الفلسفة مثل قولهم عن قوة العقل، ويؤكد العلماء مثل قولهم عن قوة الطبيعة، ومن ذلك نشأ هذا المذهب الخلاب.
والأمر فى النهاية لا غبار عليه بحيث تحدد الغاية الأسباب، ولا شك أن ذلك قد ساعد على إرضاء نفس الباحثين فهو حل لكل مشكلات الدين الذى هو أتم مذاهب التفكير الشامل وأكملها، ولعل كثير من الفلاسفة والعلماء والمفكرين يرون الفرق صغير بين أن يكون الأصل الغاية، وبين أن تكون الوسيلة هى الأصل، ولكن الواقع أن الفرق بينهما عند البحث فى القوانين الكونية الكبرى فرق شاسع جداً. كأنهم يرون أن الإنسان وقف منتصباً على قدمه فتغير تركيب القدم، ولا يرون أن القدم تغير أولاً فوقف الإنسان عليها. وهذا فى الحقيقة مثل صارخ واضح البطلان ولكنه لا يختلف فى طبيعته عن القول بأن وظيفة العضو أريدت أولاً ثم ركب لبلوغ هذه الغاية، بحيث تخضع أجزاء جسم الإنسان لقوانين بيولوجية خاصة ثم تتحدد وظيفة كل جزء منها أثر هذا التركيب الإلهى، وكذلك تكوين مذهب العلم والمعرفة وليس بأسلوب الهرم المقلوب كما نفعل الآن. وهذه هى أول الأخطاء !
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة