النفس الأمارة بالسوء جندى مجتهد جداً من جنود إبليس
لماذا نعصى الله فى رمضان؟!.. ذلك السؤال الذى يبادر للأذهان فى كل عام حين تتردد عبر المنابر، وفى كلمات الوعاظ تلك التغيرات الكونية العظيمة التى تطرأ على الكون فى أول ليلة من ليالى رمضان، حين تفتح أبواب الجنة، وتغلق أبواب النار، وتصفد الشياطين، وينادى المنادى: يا باغى الخير أقبل، ويا باغى الشر أقصر.. تصفد الشياطين، منبع الإفساد، ومبتدأ الضلالة والعصيان، هى مصفدة فى رمضان، فلماذا نعصى إذًا؟!.. من يوسوس لنا بها، وقد قُيّد الوسواس الخناس؟!.. من يغرينا بالسيئات، وقد حبس العدو الأول الذى يعد تلك السيئات سلاحه الأول؟!الحقيقة أن هناك إجابة مشهورة عن تلك التساؤلات، هى أن الشياطين التى تصفد فى رمضان هى المردة، أى أكابر الشياطين، أما تلك العفاريت الصغيرة فتترك حرة طليقة، وبالتالى هى من تتسبب فى المعاصى التى نراها، لكن فى رأيى الإجابة الأكثر واقعية عن هذا السؤال، تتلخص فى مثل شعبى مشهور «اللى خلف ما ماتش»، و«الشياطين مش بس خلفت شياطين من جنسها»، لكن هم فى الحقيقة استطاعوا أن يربوا شياطين أخطر من جنسها.. شياطين تجرى منا مجرى الدم، وهى تلك الأنفس الأمارة بالسوء، وهذه لا تصفد، أيضًا هناك شياطين تتقافز من حولنا ونراها تصدنا، وتصد غيرنا عن سبيل الله، وتلك هى شياطين الإنس، وهذه هى الأخرى لا تصفد!
أما عن النوع الأول، النفس الأمارة بالسوء، فهى جندى مجتهد جدًا من جنود إبليس، وهى المتهم الأول فى كثير من الجرائم التى وقع فيها البشر منذ بدء الخليقة.. تأمل معى أول جريمة قتل عرفها هذا المخلوق، وانظر من المتهم الأول فى القصة القرآنية « فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ»، من الذى طوع لابن آدم تلك الجريمة؟ نفسه، أيضًا جريمة قتل الناقة، آية الله لقوم صالح، النفس هى المتهم الأول هنا، كذلك «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا»، الهاء هنا تعود على من؟، على النفس فى أول السورة «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا»، وماذا عن جريمة المراودة لنبى الله يوسف فى قصته مع امرأة العزيز، هى النفس مرة أخرى «وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِى إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّى»، كذلك جريمة السامرى الذى أخرج لبنى إسرائيل عجلًا يعبدونه من دون الله، المتهم الأول هنا أيضًا هو النفس «قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى»، من سول له؟ نفسه، حتى الوسوسة التى هى من خصائص الشيطان الوسواس الخناس، فإنها أيضًا وردت فى القرآن منسوبة للنفس «وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ»، من يوسوس هنا؟ نفسه، والشح أيضًا منسوب فى القرآن للنفس، «وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ»، «وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ» إذًا فمقام النفس فى الإفساد محفوظ، كما هو واضح، خصوصًا لو كانت مدربة بهذا الشكل.
نأتى بعد ذلك للجندى الآخر ممن استخلفتهم الشياطين، ليكملوا مهمتهم «وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا».. هذه الآية تحمل التفسير المنطقى الأوضح لذلك السباق المحموم لإثارة شهوات الناس فى رمضان، إنهم شر خلف استطاع إبليس تربيته وإعداده، من ذكر الله أنهم يحبون أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، منهم من يحب أن تشيع الفاحشة كى لا يكون وحده، يحب أن تشيع الفاحشة كى يرضى عن نفسه، ويسكن بقايا ضميره، يحب أن تشيع الفاحشة لكى يقول لنفسه ها قد عمت البلوى، وكل الناس مثلى «واللى زى الناس ما يتعبش»، غايته كقدوته، وهدفه مثل هدف إمامه حين غوى وعصى، فقال «لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ»، إنه رد فعل نفسى فى أصله يميل فيه الساقط لئلا يكون وحيدًا فى تلك الدركات التى يعلم بينه وبين نفسه أنها دركات فلماذا يهوى فيها وحده؟!، لسان حاله فليسقطوا معى جميعًا وليهووا كما هويت، ولا أحد أحسن من أحد، بل ولسان مقاله أيضًا كما بينه الله فى قولهم: «أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا».. كل هؤلاء وغيرهم أسباب منطقية جدًا لوقوع المرء فى المعاصى فى رمضان حتى لو كانت الشياطين مصفدة، فقد استخلفت وأجادت الاستخلاف.. استخلفت نوعًا مختلفًا من الشياطين... شياطين لا تصفد.