نختتم عرضنا للأخطاء القديمة فى بناء العقل، بالعنصر الخامس والمعروف "بالسببية" لنكمل البحث الأخير بعد "العلة الغائية" و"التفكير الثنائى" و"إدراك الزمن" و"الحقيقة" وهو فى مضمونه يكاد يكون الطريق الصواب إلى تحديد الأخطاء التى ظهرت فى العنصر الرابع سابق الذكر لتفسير"الحقيقة الكاملة للكون"، ولكن فيها ضعفاً أصلياً هو تحديد تلك العلاقة المعروفة بالسببية.
وتقوم "السببية" فى اذهان الكثيرين على وجود علاقة بين شيئين يتتابعان زمنياً أو يتفقان مكانياً. وكنا نهزأ بالبدائيين فى تفسيراتهم لبعض أحداث الحياة والتى ترجع إلى أسباب نجمية أو كونية. والواقع أن لهم فى ذلك بعض العذر. فأكثر أحداث النجوم دورية، وكثير أيضاً من احداث الحياة دورية هى الأخرى، وليس من الصعب أن تتوافق الدورتان، فكثيراً ما تقع حوادث بعينها فى وقت واحد مع حوادث النجوم. ومن هنا تنشأ فكرة "السببية". فالنظريات العلمية فيها فروض تشبه ذلك، فالعالم الذى يرى فى حالات مرض التيفود ميكروباً خاصاً نراه يعد الميكروب سبباً فى المرض. وقد يكون السبب الحقيقى أن هذا الميكروب تخرج منه مادة كيميائية تحدد فى تفاعلها مع مادة أخرى فى خلية بعينها فى الأمعاء فتعطلها عن العمل !
ولذلك فالسببية علاقة بين شيئين ولكنها من أنواع كثيرة. ولكل سببٍ سبباً أعمق منه. فإذا علمت أن شخصاً مات من ذات الرئة، فليس هناك ما يمنع هذا السبب أن يكون سبب الموت الحقيقى هو نقصاً فى الأكسجين فى خلايا القلب أو المخ. كلاهما سببا وقد تكون هناك تفسيرات أعمق من ذلك فى المستقبل مع الاكتشافات العلمية المتلاحقة. والحق أن الأسباب العميقة كثيرة جداً فى الكيمياء والطبيعة والحيوية بعضها نعرفها والكثير لم نعرفه بعد، وكلها يعد سببٌ. وهناك الأسباب الاحصائية وهى أشد أنواع السببية تعرض للخطأ وليس من الصعب أن نجد علاقة احصائية بين عدد الحمير التى تموت فى الصين مثلاً وعدد الوزارات التى تسقط فى كينيا ـ فليس من المعقول أو المنطقى أن تكون هذه العلاقة برهان على السببية بأى حال من الأحوال. ومع ذلك فكثير من الحقائق العلمية القائمة على علم الإحصاء لا تختلف كثيراً عن هذا المثل منعدم المنطق.
لذا أتفق أغلب المفكرين والعلماء أن السببية يجب أن تكون علاقة مباشرة أو ملاصقة. فإذا قيل أن سبب طول شخص أن أباه هو السبب فهذا نوع من السببية غير المباشر يفتقر إلى معرفة خطوات هذا التشابه. إنما يجعل هذه العلاقة مقبولة إلى حد ما أن نقول أن الطول يرجع إلى عدد مرات انقسام خلايا النمو العظيمة. وأنها فى ذلك تخضع لظروف داخلية وخارجية تتشابه فى الأب والابن وهذه طريقة أقرب إلى معرفة حقيقة الواقع من قولنا أن الوراثة سبب التشابه.
وفى النهاية الحقيقة الواقعية يجب أن تكون متواضعة جداً، إذا ما قورنت بقدرة المولى عز وجل، ومقصورة على تحديد علاقات أشياء بعضها ببعض، حتى إذا كثرت هذه العلاقات وتعددت إلى الحد الذى يجعلنا نحن البشر نتصور أننا نعلم جميع العلاقات بين جميع الأشياء فتصبح المعرفة بالحقيقة كاملة. إلا أننى أذكر أن الانسان لم يصل بعد إلى ذلك الحقيقة المتكاملة، إلا بإذن من الله جل جلاله، وفى الوقت الذى يأذن به لنا نحن بنى البشر الضعفاء، سبحانه فهو يعلم ونحن لانعلم!
• أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة