«عندما أخبر ثيودور والده بعزمه الزواج من ميليا، إحدى مرضاه العقليين، كان رد فعل توماس، بعد صمت طويل: تلك المرأة ستدمر سمعتك».. وقد حدث.
بالتأكيد سوف يتوقف قارئ رواية «أورشليم» للروائى البرتغالى «جونسالو إم.تافاريس» التى ترجمها للعربية أحمد صلاح الدين ومحمد عامر الصادرة عن دار مصر العربية كثيرا أمام عنوان الرواية، فى محاولة لإدراك علاقة بين ما يحدث للشخصيات التى تشكل بتصرفاتها أحداث النص الروائى وبين الاسم التوراتى لمدينة القدس الذى تحمل الرواية اسمه، ويظل القارئ فى حيرة من أمره حتى يجد جملتين مهمتين قصد إليهما «تافاريس» الأولى الجملة التوراتية «إن نسيتك يا أورشليم تنسى يمينى» والثانية «إن نسيتك يا جورج روزنبرج تنسى يمينى».
و«جورج روزنبرج» لمن لم يقرأ الرواية هى مصحة نفسية لها علاقة قوية بمعظم شخصيات الرواية، وعلى رأسهم «ميليا وأرنست» اللذان حدثت بينهما علاقة كان نتيجتها ابنهما «كاس» الذى لم يره «أرنست» ولا مرة فى حياته حتى مقتل الطفل وهو فى الثانية عشرة من عمره، المهم أنه بعد فترة قضاها كل منهما فى هذه المصحة خرجا منها محملان بعقد نفسية واضطرابات عقلية أكثر من تلك التى دخلا بها، كما أن هذه المصحة بإدارتها التى يمكن وصفها بالعنيفة والنفعية قد تركت ظلالها فى داخلهما بشكل كبير فلم يستطيعا أن يتحررا من أثرها أبدا، ليس هما فقط فحتى الطبيب النفسى باسبيك ثيودور ظل أيضا طوال حياته يعانى من هذا المكان، على الرغم من كونه لم يدخله مريضا أبدا ولم يعمل به، لكن المصحة رسمت خطوط مستقبله ومأساته.
من يقرأ رواية «أورشليم» يتأكد بما لا يدع مالا للشك أن الفن الروائى يتطور بشكل مذهل فى الخارج، ويأخذ شكلا من الجدية التى تكشف أن الأمر الكتابى يتجاوز الحدوتة لكنه فى الوقت نفسه لا ينساها، كما أن التشويق عامل أساسى للتواصل مع القارئ، لكن الاختلاف فى أن كل ذلك يتم وسط تقنيات فنية مختلفة، كما أن الرواية لها إطار «كونى» كبير من خلال أسئلتها الفلسفية، فالدكتور «ثيودور» حصل على لقب رجل العام بعد أن نشر بحثا استغرق وقتا طويلا من حياته، بحث فيه عن «العلاقة بين التاريخ والوحشية ورصد مسار الرعب قرنا بعد قرن وتوقع المستقبل الدامى للإنسان على ظهر هذه الأرض»، وذلك توصل من خلاله إلى أن العالم يحب الوحشية.
وتوقفت الرواية بحرفية عند الحالة النفسية للعالم وكشفت ما به من اضطراب، كما أنها تعاملت مع الإنسان على أساس أنه يعيش فى حركة دائرية، خاصة أن المؤلف لم يغفل دور القدر فى صناعة حياة الشخصيات، ولم ينس أيضا تأثيرات البيئة التى يعيشون فيها، لكن الأهم أنه ينبهنا للخطر المسيطر فى داخلنا، وهو رغبتنا فى ارتكاب الأفعال الوحشية بالآخرين.