ليلة السبت الماضى كانت ليلة عصيبة على تركيا، فقد واجه نظام رجلها القوى «أردوغان» محاولة انقلابية قام بها ضباط من سلاح الجو وبعض قوات الأمن وعناصر من القوات المدرعة، واقتحم المتمردون مبنى التلفزيون الرسمى TRT وأرغموا المذيعة على إلقاء بيانهم الأول، وتحدثت المعلومات عن احتجاز رئيس الأركان، بل إن أخبارا سرت عن قتله، وتحدثت الأخبار عن أن قادة القوات الجوية والبرية هم من يقودون الانقلاب، ويبدو أن تحرير رئيس الأركان من حجزه أمكنه من استعادة قدرته على التواصل مع قادة الجيوش الذين أصدروا أوامرهم للمتمردين بتسليم أنفسهم، وهو ما حدث بالفعل.
كان حديث «أردوغان» عبر محطات التليفزيون الموالية له من تليفونه المحمول مخاطبا الجماهير أن تخرج إلى مطار «أتاتورك» وأن تحرره من الانقلابيين وهو ما حدث بالفعل، كانت المحاولة الانقلابية فى تركيا تعبيرا عن سخط وغضب مجموعات من الجيش التركى على ما اعتبروه سياسات تدفع بالبلاد إلى خطر التقسيم وتهديد مصالحها العليا، وظلت الأمور غامضة لمدة خمس ساعات تقريبا كان مصير الحكومة والنظام السياسى فى مهب الريح، وبدا الانقلابيون وكأنهم يحرزون تقدما فى الساعات الأولى، بيد أن بقاء الرئيس ورئيس الحكومة ورئيس البرلمان خارج قبضة الانقلابيين وتحرير رئيس الأركان وخروج الجماهير إلى الشوارع لتواجه الدبابات والانقلابيين فى مشهد فريد، وليضطر الانقلابيون من بعد للاستسلام.
حصيلة العملية الانقلابية من القتلى بلغت 104 قتيلا من المتمردين و90 آخرين من الشرطة وقواتها والمدنيين، ولأول مرة تبث مشاهد لجندى تركى وهو مقطوع الرأس، كما بثت القنوات المختلفة صورا لقادة الانقلاب وقد قيدت أيديهم وهم مستسلمون، كما ظهرت صور عديدة لجنود نزلوا من دباباتهم ورفعوا أيديهم مستسلمين، وفر بعض جنود القوات الجوية إلى اليونان المجاورة، وتعرض مبنى البرلمان للقصف من قبل المتمردين، وبدت القوات الخاصة والشرطة الموالية للنظام ويدها العليا فى فرض النظام والقانون والتدخل للقبض على الجنود الذين احتلوا مبانى التليفزيون الرسمى.
خرج أردوغان إلى أنصاره وتحدث إليهم عند المطار، وفى إسطنبول كما خرج رئيس الوزراء وتحدث إلى الشعب التركى، وتم توقيع وثيقة لكل الأحزاب تدين فيها الانقلاب، وتؤكد على الخيار الديمقراطى للبلاد، وطالب الرئيس ورئيس الحكومة الشعب للنزول والبقاء فى الميادين لأن الانقلابيين لا يزال بعضهم يعتقل قادة بحريين وقيادات فى الجيش بما فى ذلك القاعدة الأهم «إنجيرليك»، وكان الشعب سيد الموقف فى حماية خياره الديموقراطى فى مواجهة الانقلابيين.
ورغم أن صفحة الانقلاب الفاشل قد طويت إلا أن آثارها ونتائجها لا تزال تلقى بظلالها على الوضع السياسى فى البلاد ذلك أن الرئيس اتهم قلة فى الجيش بالتمرد، وأن جماعة الخدمة التى يقودها المفكر الإصلاحى «فتح الله كولن» الذى يقيم فى ولاية بنسلفانيا فى الولايات المتحدة الأمريكية.
وبقراءة الأرقام التى يتم القبض عليها فى سياق ما اعتبر تنظيفا للجيش من الخونة نجد أنه قد تم اعتقال ما يزيد على الـ1500 بينهم 5 جنرالات، بيد أن مجلس القضاء الأعلى فى تركيا أصدر قراره بعزل ما يزيد على ألفى قاض ٍ، وهو ما يعنى أن فكرة «التنظيف» تتسع لتشمل مجالات تعبر عن قلق «أردوغان» من جماعة الخدمة التى يعتبرها كيانا موازيا متآمرا وخائنا، وهو ما يعد توجها خطيرا، ذلك لأن الجماعة الكبيرة فى بعض التقديرات يصل مؤيدوها إلى ما لا يقل عن 7% من الشعب التركى.
تركيا هى بلد مهم وكبير وسنى ووحدته وتماسكه وعافيته يهم كل عربى ومسلم بصرف النظر عن الاتفاق والاختلاف مع سياسات الحزب والحكومة الحاكمة، ومصدر الحزن أن النموذج الذى كنا نعتبره عنوانا للعقلانية والتوفيق والحلول الوسط والتحول الديمقراطى الواثق ينزلق إلى مخاطر المواجهات الدموية داخل جيشه وبين جيشه والشعب وينفتح على صراع هوياتى غير مأمون العواقب.