أثار الانقلاب الأخير فى تركيا جدلاً غير مسبوق، حول أسبابه وأهدافه ومن ورائه ومن المستفيد من فشله، وزاد الجدل وتصاعد مع الإجراءات غير العادية التى تتخذها أنقرة بعد فشل الانقلاب، والبعض فى تركيا يقول إن أردوغان كاد أن يدفع حياته ثمنًا لتحوله نحو روسيا، وكشف الخبير التركى بشئون الشرق الأوسط، بافل ظريف الله أسرارًا، قال إنه حصل عليها من مصدر أمنى سرى رفيع المستوى فى أنقرة، تفيد بأن الانقلاب تم بتخطيط من واشنطن، ويقول ظريف الله لوكالة الأنباء الروسية "نوفوستي": "يجب أن يلتقى الرئيسان بوتين وأردوغان بأسرع ما يمكن. الجميع يتحدثون عن هذا اللقاء. والولايات المتحدة بذلت كل ما فى وسعها ولا تزال من أجل منع ذلك، حتى بواسطة الانقلاب. ونحن فى تركيا (أنصار الاتحاد الأوراسى) نرى أن لقاء بوتين سينقذ البلاد ".
فى تركيا الآن يتحدثون وكأن هذا الانقلاب الفاشل سيشكل الصدمة التى ستعيد تركيا إلى وعيها قبل فوات الآوان، وقبل أن تغرق لرأسها فى مستنقع حرب الإرهاب، وتجعلها تفيق من كابوس السعى للانضمام للاتحاد الأوروبى والاستمرار فى عضوية حلف الناتو التى لم تستفد منها تركيا شيئًا ولم تجلب لها سوى المشاكل والانقسامات السياسية الداخلية وجعلت الكثير من الدول المهمة تتجنب الدخول مع تركيا فى علاقات جيدة ومفيدة، مثل روسيا وإيران والصين وغيرهم ممن ليس لديهم ود وقبول لدى حلف الناتو، كما حرمت تركيا من الانضمام لمنظمات إقليمية مفيدة لها اقتصاديًا وأمنيًا، مثل "منظمة شنغهاى للتعاون" ومنظمة "بريكس" للدول الأسرع نموًا، و"الاتحاد الأوراسى" .
ويبدو أن التخطيط للانقلاب لم يكن بعيدًا، بل تم منذ زمن قريب، ربما أيام، وربما كان هذا أهم أسباب فشله، حيث لم يتم الإعداد له جيدًا، ويبدو أنه تم التخطيط له فور تصالح تركيا مع روسيا بعد اعتذار أردوغان عن حادث إسقاط طائرة سوخوى الروسية وقتل قائدها، هذا الاعتذار الذى بدا وكأنه جاء مفاجئًا، وأيضًا قبول موسكو السريع للاعتذار والدخول فى اتفاقات سريعة على عودة المياه بين البلدين لمجاريها، وعودة السياحة وعودة الحديث عن بناء خط الغاز الروسى التركى إلى أوروبا، والحديث عن لقاء مرتقب بين بوتين وأردوغان، كل هذه الإجراءات المتسارعة فى أيام قليلة كانت واشنطن تراقبها بقلق شديد خوفًا من تحول السياسة التركية التى بدا عليها على مدى عام مضى أنها بدأت تتباعد عن الغرب الذى لم يعط الاهتمام الواجب لمصالح أنقرة التى قدمت الكثير، بل تعامل معها دائمًا وكأنها المتسول المسلم المشبوه على أبواب الاتحاد الأوروبى، وأيضًا وكأنها الخادمة المطيعة لدى حلف الناتو وليست العضوة فيه مثل الآخرين.
الأزمة السورية التى انغرست فيها تركيا حتى رأسها كشفت لأنقرة، وخاصة لنظام أردوغان، الكثير من المعايير الخفية والغامضة التى تتعامل بموجبها واشنطن مع أنقرة، واستخدامها لها كأداة تحركها وتحرك بها الأحداث فى سوريا كيفما تريد، وعندما تدخلت روسيا بالقوة فى سوريا هرب الآخرون وتركوا تركيا وحدها تواجه القصف الروسى على جماعات المسلحين الذين جعلوا من تركيا ملجأ لهم يدخلون إليه ويخرجون منه كيف يشاءون، بحيث باتت تركيا وطن الإرهاب والإرهابيين، وذلك من أجل عيون الغرب وواشنطن التى لم تحصل منهم تركيا على شيء، بل خسرت الكثير بسببهم، وليس أكثر من دعم واشنطن للأكراد الذين تتعامل معهم أنقرة على أنهم إرهابيون يهددون أمن ونظام تركيا.
وتأكدت أنقرة من أن تغيير سياستها واتجاهاتها سيكون أكثر فائدة ومنافع لها من بقائها فى هذا المستنقع متعلقة بخيوط أمال وأحلام واهية مع الغرب وواشنطن، وشاهدت تركيا كيف انسحبت قطر بسرعة من هذا المستنقع وأثرت العودة للبيت الخليجى ولأحضان روسيا التى بات رئيسها بوتين أقرب الشخصيات لأمير قطر تميم بن حمد، وذلك بعد سنوات من الخلاف والنزاع الذى وصل إلى حد إيقاف العلاقات الدبلوماسية بين موسكو والدوحة.
واشنطن تبرئ نفسها من الانقلاب، وأنقرة مصممة على اتهامها واستفزازها بتضييق الحصار على قاعدة إنجيرليك الجوية وعدم السماح للطائرات الأمريكية ضمن قوات التحالف الدولى ضد "داعش" فى سوريا بالتحليق منها، وهذا مؤشر كبير على التحولات القادمة فى السياسة التركية، والتى يستدل عليها أيضًا بكم الاعتقالات والاستبعادات الهائل للآلاف من القضاة والمسئولين والموظفين وغيرهم، وهؤلاء جميعًا ليسوا مشاركين فى الانقلاب بالقطع، وربما لا علاقة لهم به، لكنهم لن يؤيدوا سياسة أردوغان القادمة، فهم منتمون فكريًا وسياسيًا إلى ما يسمى "حكم العسكر"، هذا الحكم الذى لا يقتصر على العسكريين فقط، بل يعنى هم ومن يؤيدونهم، وفى تركيا بالتحديد نظام ما يسمى بـ"حكم العسكر"، الموالى لواشنطن بحكم كونه جزءًا من منظومة حلف الناتو، استطاع على مدى عقود طويلة، تحت شعار "حماية الأتاتوركية" أن يكون لنفسه قاعدة شعبية ومؤسساتية كبيرة يستعين بها فى تأييد سياساته وتوجهاته، خاصة عندما يصطدم مع النظام الحزبى الحاكم، هذه القاعدة التى يستند إليها هذا النظام هى التى يحاول نظام أردوغان تصفيتها الآن، لأنها لن تؤيد تحولاته السياسية وخصوصًا نحو روسيا.
سياسة أنقرة لن تتغير كلها مرة واحدة، ولن تعلن أنقرة غدًا عن تغاضيها عن حكم بشار الأسد، ولا عن تخليها عن دعم تنظيم "الإخوان المسلمين"، وربما لا تسعى قريبًا للتصالح مع مصر، خاصة أن علاقاتها مع إسرائيل لا تحبذ الإسراع فى هذا التصالح، لكن أنقرة ستبدأ تحولاتها السياسية قريبًا بالخطوة المهمة، وهى لقاء بوتين وأردوغان، هذا اللقاء الذى كاد أردوغان أن يدفع حياته ثمنًا له قبل وقوعه، فكيف ستتعامل معه واشنطن بعد وقوعه؟، الإجابة على هذا السؤال هى التى تكشف عن الهدف من كل الإجراءات التى يتخذها أردوغان الآن فى تركيا بعد الانقلاب، هذا الهدف هو، كما يرى البعض، "تفادى الانقلاب القادم" .
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة