- لم نشهد فى الدراما الرمضانية هذا العام عالما فذا
كل كلامه يمين وكل حركاته شمال، فزورة شهر رمضان التى تتضخم كل عام، مجتمع تائه بين التقوى والفجور وبين التهجد والتبلد، بين المسلسلات والصلوات بين الصيام والإسراف، بين الغناء الفاحش والفقر الفاجع، يتباهى بقناع الفضيلة والحكمة والرحمة، ويتلذذ بفعل العكس فى كل سلوكه، مجتمع يجعل من الرذيلة عادة، ويدعو الله ما (تنقطعلنا) عادة، فالكل يطنطن بالشباب ودور الشباب وتنمية الشباب وحرية الشباب، وكل سلوكيات المجتمع تدوس على كل هذه الصفات بالجزمة، فماذا نصنع بالشباب ونحن نحقن عقولهم بثقافة مدمرة تجعل من القتل بطولة، ومن سفك الدماء أكل عيش، ومن البلطجة أسلوب حياة، وبدلا من أن يكون حلم المراهقين أن يصبحوا أطباء مرموقين أو علماء نوابغ أو رجال أعمال محترمين، تجدهم الآن يتدرعون إلى الله أن يوفقهم، ويجعلهم من كبار تجار السلاح أو الآثار أو المخدرات أو خلطة إجرام من كل ذلك.
هذا هو الطريق الوحيد السالك فى دروب مصر للوصول إلى البطولة والسعادة والمال، سيطرت الدراما الرمضانية على عقول المراهقين والشباب بل والكبار الناضجين، وغسلت أدمغة الجميع حتى انبهرنا بقصص المجرمين واللصوص والقتلة، وأصبحوا الأبطال المشهورين والقدوة المنشودة، فهذا إنسان متفوق ظلمته الأيام والظروف والدولة، فأصبح من كبار تجار السلاح، والآخر خرج إلى الدنيا بجريمة قتل وقهر الفقر والناس منذ طفولته، فأصبح «حوت» من تجار الآثار، والآخر يتاجر فى كل الممنوعات لأن الحرام مثل الشطة فى الطعام، والثالث يتاجر فى المخدرات لأنه فشل فى علاقاته النسائية، مبررات عجيبة تجعل من الجريمة حاجة لطيفة، وتجعل من المجرم «حد كيوت وجميل» وتشجع أى مراهق على أن يرسم أحلامه بسهولة، وينتظر الفرصة لكى يقتلك ويسرق ما معك.
لم نشهد فى الدراما الرمضانية هذا العام عالما فذا أو رجل أعمال وطنيا أو موظفا صاحب هدف أو طبيبا عبقريا أو مبدعا مجتهدا، كل ما قدمناه لشبابنا هذا العام هو بطولات من الزبالة، بعض الناس تستخف بأثار هذه الدراما فى الشباب والمراهقين، ولكن إحصائيات منظمة الصحة العالمية أكدت أن الأفلام والمسلسلات هى السبب الأول فى انتشار التدخين وارتباطه بمفاهيم القوة والذكورة والقدرة على قهر المستحيل، بمجرد سحب النفسين، ونفس الوضع بالنسبة للمخدرات والخمور وارتباطها بتغيير الحالة المزاجية إلى الأفضل، وضحك ورقص وفرفشة وآخر انبساط، لذلك نحن نقدم للشباب البلطجة والإجرام كمنتج جديد بجانب السجائر والخمور والمخدرات حتى تكتمل رباعية الضياع، وفى نفس الوقت نعاقب المجتهدين والمتميزين على اجتهادهم ونسرب الامتحانات، حتى تصبح البلطجة جزءا من المنظومة التعليمية، وحتى يؤمن كل مجتهد بأنه فى مجتمع يستحق الحرق، وأن كل كلمات الفضيلة والشرف مناديل ورق نمسح بها ونرميها، شباب لا يرى إلا إعلانات الشحاتة وإعلانات المنتجعات، فلا هو قادر على أن يتبرع بجنيه، ولا يستطيع أن يحلم بأن يشترى شقة 100 متر بمليون جنيه، شباب تائه بين دعوات الحكومة بالإنتاج والتحدى والأمل، وبين فشله فى توفير فرصة عمل، بين الخطب السياسية وكلمات الحرية والمشاركة، وبين أسماء المعتقلين وأحكام السجون فى كل مواجهة، شباب مرتاب فى كفاءة تعليمه وقدرات معلميه، معدوم الثقة فى إمكانياته الشخصية، فهو لا يمتلك إلا الواسطة والمحسوبية للحصول على عمل أو الحظ للوصول إلى «لقمة عيش» أو حلم الهروب للخارج، ولو انتهى الحلم بجثة يأكلها ملح البحر.
الآن نعطيهم بدائل جديدة وأحلاما سعيدة مع البلطجية والقتلة وتجار المخدرات والسلاح والآثار، لتصبح كل الطرق تؤدى إلى خراب روما وضياع أولادها، لذلك ستشهد المرحلة المقبلة إقبالا منقطع النظير على الأعمال المنافية للقانون والسلوكيات الحيوانية، وسيتباهى الشباب بهذا الإجرام وهذا العنف وهذه الحياة، ووقتها سنتساءل: هل الكوارث الاجتماعية التى تلاحق أولادنا بسبب التجاهل أم الترصد أم الدراما وسوء الفهم مع سوء الظروف؟