مدهشة هى تلك الأنفس البشرية وتقلباتها، مدهشة ومحيرة بشكل يذهل حتى أصحاب الأنفس.. انتقال من حال إلى نقيضه التام، وتقلب بين خالص الخير ودركات الشر، وتحول حاد من سمت إلى ما هو ضده، وكل ذلك قد يحدث فى مدد قصيرة جدًا، بل أحيانًا تختلط الأحوال المتناقضة فى الوقت نفسه، قال ربنا جل وعلا فى سورة التوبة: «وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ»، أن يصل التقلب إلى أن يطلق عليه هذا المصطلح «الخلط»، إنه امتزاج عجيب بين العمل الصالح والعمل السيئ، وهما نقيضان، لكن دهاليز الأنفس البشرية تستوعبهما «وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا* فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»، الفجور والتقوى ضدان آخران يقبع أصل كل منهما فى أعماق تلك الأنفس، فتارة تستجيب لأصل الفجور، وتارة تتزكى، فتستجيب لأصل التقوى، والشيطان يرقب ذلك، ويتلاعب به، قد يُبتلى الواحد منا بمعصية يذهله وقوعه فيها، وقد كان بينه وبينها آماد بعيدة، ومراحل عديدة، وكانت تفصله عنها أسوار عالية من الخشية والورع، وجدر محصنة بالتقوى والزهد والإخبات، فيتعجب فعلًا ويتساءل مستنكرًا غير مصدق: كيف وقعت فيها؟! أنَّى لى تجاوز كل الحوائل، وطى كل تلك المسافات؟! أين ذهبت كل أسوار الخشية وحواجز الورع التى كانت تحول بينى وبين ما هو أدنى بكثير من تلك المعصية؟!
والحقيقة أن دهشته سببها تغافله عن خطوة أولى خطاها متبعًا شيطانه، ومصدقًا وعده، ومغترًا بتزيينه، خطوة خطاها ذاهلًا عما يحدث، وأنه بتلك الخطوة قد وقع فى الفخ، وأن الخطوة ستتلوها خطوات، إن لم ينتبه ويتدارك نفسه التى تتأهب للاستجابة لداعى الفجور بداخلها من خلال تلك الخطوات، خطوات سماها مولاه: خطوات الشيطان، خطوة ثم أخرى، ثم ثالثة ورابعة، يظل يتقدم تدريجيًا دون أن تلحظ نفسه إلا البريق، ولا تلتفت إلا للتزيين، ورويدًا رويدًا تبدأ قدماه فى الغوص فى الوحل وهو لا يشعر بملمسه القذر على رجليه، وفجأة يفيق ليجد نفسه هنالك وقد تلطخ جسده الطاهر، وتدنست روحه الورعة، وغاص جسمه فى وحل الخطيئة، حتى كاد أن يغرق فى تلك البقعة التى تؤدى إليها تلك الخطوات، خطوات الشيطان.. فالآن يندهش وبعد كل ذلك يتعجب؟!
أما كان من الأفضل له بدلًا من أن يقضى الوقت فى الذهول والدهشة أن يتدارك نفسه، وينفض عنها تلك الأوحال، ويغادر ذلك المسار الذى رسمته الخطوات الشيطانية؟! أما آن له أن يعود أدراجه، ويبحث من جديد عن أحجار ورع، ولبنات خشية، وملاط من تقوى ليعيد بناء أسوار تهدمت، وجدر تصدعت، وحواجز قد انهارت؟! أما آن له أن ينتبه لموضع قدميه، وأن يحذر لكل خطوة يخطوها لعلها تقع من جديد على إحدى خطوات عدوه اللدود، خطوات الشيطان تلك الخطوات التى حذره الله منها فى سورة «النور» بشكل واضح، قائلًا: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»، وفى سورة «البقرة» دل الإنسان على الوسيلة الأهم لنجاة النفس من الوقوع فى أسر تلك الخطوات: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِى السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ».. هذا هو الحل ، معرفة أصل العداوة، إن هذه هى المشكلة الحقيقية التى إن استطاع المرء حلها لنجح فى اتقاء تلك الخطوات، مشكلة عدم تذكر حقيقة العداوة الراسخة، فإن تذكر ذلك فهل يقبل عاقل أن يتبع خطوات عدوه؟!.. خطوات الشيطان!
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة