عبر الانقلاب الفاشل فى تركيا عن شرخ داخل الجيش التركى الذى يعد المثال الأعلى عن وحدة الأمة التركية، فقد قام بالتمرد قطاع من الجيش فى رئاسة الأركان وفى القوات البرية والجوية، وكان الانقلابيون قد استبقوا لجنة للمجلس العسكرى الأعلى تعقد كل سنتين تقوم بتصفية الجيش ممن تعدهم غير موالين للنظام، هذه اللجنة تعقد فى أواخر شهر يوليو وأوائل شهر أغسطس، كانت تقارير فى مجلات دولية كـ«الفورين أفيرز» تحدثت عن احتمالات انقلاب فى الجيش التركى قبل وقوعه، ففى مقال لها بعنوان «انقلاب تركيا العسكرى القادم»، الذى تم نشره فى الشهر السابق للانقلاب أشار المقال إلى أن التقارب بين أردوغان والجيش لمواجهة ما يطلق عليه «الكيان الموازى»، وهى جماعة الخدمة التابعة لزعيمها الروحى «فتح الله جولن» المقيم فى ولاية بنسلفانيا فى الولايات المتحدة الأمريكية، والتى عدها «أردوغان» تحديا رئيسيا له بعد كشفها لقضية فساد اتهم فيها وزراء وذكر فيها اسم ابن أردوغان بلال وتعرف فى تركيا بقضية 17/25 وهى الأيام التى امتد فيها كشف قضية الفساد التى قام بكشفها ضباط فى الشرطة موالون لجماعة الخدمة فى شهر ديسمبر عام 2013.
التقارب مع الجيش لمواجهة جماعة الخدمة حذرت منه «الفورين أفيرز» وقالت إن «أردوغان» كمن يركب نمرًا، وأن الجيش رغم رغبته فى القيام بانقلابات فإنه يراقب السياسة ويمكنه التدخل فيها لو حدث ما يراه وفق الدستور تهديدًا لمصالح تركيا العليا على مستوى العلمانية وعلى مستوى وحدة حدودها الإقليمية واستقرارها الداخلى.
يرى علمانيو تركيا أن «أردوغان» ينفذ ما كانوا يتمنونه من التخلص من أحد أهم أعدائهم وهم جماعة الخدمة التى تحالفت مع أردوغان للتخلص من العلمانية وللحد من نفوذ الجيش وتقليل الطابع العسكرى فى الحياة المدنية، ومن ثم فإنهم يراقبون وهم مرتاحون للقضاء على الجماعة المحافظة بيد حليفها الإسلامى السابق، وهذا يعد انقسامًا داخل الطبقة الاجتماعية والاقتصادية التى كانت تصوت لحزب العدالة والتنمية، وهى الطبقة المحافظة التى تنتمى لمنطقة الأناضول والتى جرى تهميشها فى ظل تغلب الحكومات العلمانية على البلاد.
لا يمكن تصور أن الإجراءات الواسعة التى اتخذها «أردوغان» والحكومة التى تعبر عن حزبه العدالة والتنمية لن تهز مؤسسات الدولة بعمق، كما أنها ستهز المجتمع التركى والطبقة المتدينة والمحافظة داخله، كما أشرنا، ويبدو أردوغان باحثا عن حلفاء جدد سوف يجدهم مع التيارات العلمانية داخل الجيش ومؤسسات الدولة المختلفة، وهو ما يعكس انحيازه للعلمانية حين تحدث مستشاره «إسماعيل كهرمان» عن الشريعة الإسلامية وضرورة تضمينها فى الدستور الجديد.
لا يترك الانقلاب تداعياته فقط على الداخل، وإنما يمدها إلى الخارج، فأردوغان مع توتر علاقاته مع أوروبا وأمريكا سوف يجد نفسه بالضرورة محتاجا لروسيا وبوتين وهو سيزور موسكو فى الشهر الجارى، كما سيكون بحاجة إلى طهران بحكم الجوار الجغرافى والمصالح الاقتصادية وبحكم مصلحة مشتركة بينهما وهى منع الأكراد من الحصول على أى شكل من أشكال الحكم الذاتى أو السيطرة على أجزاء من أراضى سوريا، وهو ما قد يشجعهم على مطالب فى الأراضى التركية تسكنها أغلبية كردية، وهنا سيجد «أردوغان» بحكم تحالفاته الجديدة فى موقف مختلف عما كانت سياساته الخارجية قبل الانقلاب تتبعه، هو سيجد نفسه قريبا من موقف الأسد والنظام السورى بحكم ذلك الاصطفاف، ومن ثم فإن الائتلاف السورى المعارض الذى يتخذ من تركيا حليفا مهما له سيجد نفسه فى مهب الريح، ولعل ما يحدث فى حلب وحصار سكانها وتقدم جيش النظام على حساب قوى المعارضة هو دليل على خروج تركيا من معادلة الصراع فى سوريا، بدليل أن «أردوغان» لم يفتح فمه بكلمة تجاه ما يجرى فى حلب.
لحظة الانقلاب الفاشل كانت حساسة وخطيرة، بيد أن ما بعد الانقلاب هو الأخطر والذى لاتزال آثاره بعد لم تتكشف تماما، الحفاظ على الديمقراطية يجب أن يستند إلى أدواتها وليس لاتخاذها ستارًا لبناء تسلطية جديدة.