فى التسعينات من القرن الميلادى الماضى، خرج إلى شاشات السينما فيلم رعب أمريكى، يعد من الأفلام التى صنعت على منوالها مجموعة كبيرة من الأفلام تسير على نفس المنوال، بل لفرط نجاحه تم عمل أكثر من جزء منه بنفس الفكرة، وأحيانًا بنفس الأبطال. عنوان معبر اختاره صناع الفيلم للجزء الأول وهو: «أنا أعلم ما فعلتم فى الصيف الماضى»، فى العام التالى كان الجزء الثانى وبنفس الأبطال، وكان العنوان شبيهًا ولم يزد إلا كلمة واحدة، كلمة لا زلت «لا زلت أعلم ما فعلتم فى الصيف الماضى»، بعدها بعدة أعوام علمت أن جزءًا ثالثًا تم إنتاجه وكان العنوان شبيهًا أيضًا بالعناوين السابقة «سوف أظل دائمًا أعلم ما فعلتم بالصيف الماضى».
أتذكر جيدًا فكرة ذلك الفيلم منذ صباى وكأننى شاهدته بالأمس، فكرة كابوسية هى ربما لا يطيق بشر التعايش معها.. أن يعلم بشر مثلك أسوأ ما فعلت! كان ما فعلته مجموعة المراهقين أبطال الفيلم فى ذلك الصيف ما يسمى بجريمة «صدم وهروب»، ولكن هذا الهروب لم يكن هروبًا عاديًا. إن حادث سير قد أودى بحياة أحد المارة على الطريق السريع حين حطمت جسده سيارتهم المسرعة، ربما كان الحادث غير مقصود وربما كان سفههم وسرعتهم الجنونية أو الخمر التى أذهبت بعقولهم وتركيزهم سببًا فى الحادث، لكن المشكلة الأخطر كانت فيما فعلوه بعد ذلك.
لقد ألقوا بجثة الذى صدموه فى البحر وهربوا ثم ظنوا أن الأمر انتهى بمجرد هروبهم ومرور الأيام والشهور ونسيانهم لكل ما حدث، لكنه لم ينتهِ، لقد بدأ للتو، بدأ حينما طاردهم ذلك المجهول الذى يختم كل ما يفعله معهم بهذه الجملة عنوان الفيلم وأجزائه «أنا أعلم ما فعلتم فى الصيف الماضى» إذًا فالجريمة لم تسقط والخطيئة لم تُنسَ، هناك من لم يزل يتذكرها والأهم أنه يحاسبهم الآن عليها. لن أطيل فى ذكر الأحداث الكابوسية التى مرت بأبطال الفيلم والتى لا أتذكر أكثرها لكننى أتذكر جيدًا أنها أدت لتلك النتيجة التى خلصت إليها منذ سطور، والتى لم تغادر ذهنى بسهولة، إنهم لم يعودوا يطيقون العيش مع تلك الفكرة، هناك من يعلم أبشع أسرارهم وسيحاسبهم عليها والخطيئة لم تمر والمسؤولية لم تسقط، هناك من يعلم ويحاسب ويعاقب.
المشكلة أن كثيرًا منا لا يتعايش مع فكرة أن يعلم بشر أخزى أسراره، ويطمئن حين تستر ويجيد إخفاءها، بينما لا يأبه للحقيقة التى ليس منها مهرب، حقيقة أن هناك من يعلم! يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى.. يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.. يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ.. يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ.. يَعْلَمُ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ.. يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ.. يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِى الصُّدُورُ، هذه الآيات المحكمات الواضحات القاطعات البينات ومثلها كثير مما تمتلئ به صفحات القرآن، تظهر هذه الحقيقة جلية حاسمة.
الله يعلم والمسلم يعلم أن الله يعلم، وهو على علمه بكل ما فعلنا، وما نفعل، قادر مقتدر سريع الحساب شديد العقاب، رغم ذلك يفزعنا علم المخلوق ولا نطيق كشف عورات أفعالنا وانتهاك حرمة خطيئاتنا إما فانين مثلنا، نتستر منهم ونخشى الفضيحة أمام أعينهم ونستحيى من نظراتهم، بينما لا نخجل منه رغم علمنا بعلمه دقائق أحوالنا وإحصائه لهفواتنا، فضلًا عن كبائر أخطائنا وخطيئاتنا! فلماذا إذًا؟! لماذا لم نستحِ منه، ولماذا لم يأبه كثير منا بعلمه ونظره؟! الإجابة تكمن فى تحول معلومة أن الله يعلم إلى حقيقة نابضة نحيا بها ونتحرك من خلال إدراكنا العملى لها، حقيقة تجعل دومًا نصب أعيننا أمرًا يتجاوز أعتى الأفلام الخيالية والروايات التى تحبس الأنفاس، حقيقة أنه يعلم ما فعلت ليس فقط فى الصيف الماضى، ولكن فى كل لحظة مرت بك وتمر وستمر.. يَعْلَمُ مَا فِى أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ.