من دراسة مشكلات مصر الاقتصادية نخلص إلى أن علينا، فى سبيل تحقيق التنمية ومعدلات مرتفعة فى الناتج المحلى الاجمالى الضرورية لرفع مستوى الدخل القومى ونصيب الفرد منه، أن نوازن بين أمرين متعارضين فى ظل الظروف الراهنة وذلك لانخفاض الدخل القومى (إذا ما قورن بعدد السكان)، ولعدم مرونة الجهاز الإنتاجى بالقدر الكافى اللازم للتنمية وهما رفع الادخار القومى حتى نضمن مصادر كافية لتمويل الاستثمارات المطلوبة للتنمية، ورفع الاستهلاك القومى أيضاً حتى نضمن طلباً كلياً كافياً لتحريك مضاعفة الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة.
وتتمثل المشكلة هنا، فى أنه مع انخفاض الدخل القومى واستمرار حالة الركود نسبياً، وفى أن ارتفاع الاستهلاك (أى الطلب الكلى) يعنى انخفاضاً واضحاً فى مستقبل الادخار القومى، وهو منخفض بطبيعته فى مصر الان. ومع الاعتراف بهذه المعضلة، إلا أننا لا يصح أن نقلل أبداً من أهمية رفع الاستهلاك القومى ودوره فى تحريك التنمية الاقتصادية وضمان استمرارها، ولا يجب أن تقلق الحكومة للزيادة المضطردة فى الاستهلاك القومى، طالما أن هناك خطط للتنمية سوف تلاحق هذه الزيادة فى الطلب الكلى فى الفترة المتوسطة والطويلة. ولا شك أن هذا الحل الذى طرحته يمكن أن يختلف تبعاً لاختلاف الظروف الاقتصادية والاجتماعية، وتبعاً لاختلاف النظام الاقتصادى المتبع فى مصر للعشر سنوات القادمة. ولسنا هنا بصدد مناقشة هذه المسائل.
وتأتى التفرقة الثانية فى مصر بين حالتين من حالات التشغيل (أى مستوى البطالة)، وهما حالة التشغيل الناقص وحالة التشغيل الكامل (أى البطالة الواسعة أو البطالة الطبيعية). ففى الحالة الأولى- وهى الحالة الغالبة فى مصر- نجد أن إعادة توزيع الدخل القومى فى صالح الفقراء، يعنى زيادة الاستهلاك القومى، ويعتبر علاجاً هاماً لنقص الطالب الكلى ولمحاربة البطالة. ويزيد من أهمية هذا العلاج ما يؤدى إليه من رفع فرص الاستثمار أيضاً والتى تنقص مصر الآن.
أما إذا ما وصلت مصر إلى حالة التشغيل الكامل (انخفاض معدلات البطالة إلى المستوى الطبيعي)، هنا يجب أن تتطور السياسة الاقتصادية للبلاد، وذلك لأن ارتفاع الاستهلاك، نتيجة إعادة توزيع الدخل القومى فى صالح الطبقات الفقيرة، يترجم على الفور إلى "تضخم"، ويؤدى إلى إعادة توزيع عوامل الانتاج وخاصة الأيدى العاملة بين الأنشطة الاقتصادية الاستهلاكية والخدمات وصناعات الاستثمار والزراعة..الخ، ويأتى فى صالح الأولى والثانية على حساب صناعات الاستثمار والتوسع الزراعى، وهو ما يعنى إعادة تكوين هيكل الإنتاج وبالتالى البنيان الاقتصادى فى الاتجاه الاستهلاكى والخدمى فقط، وهو ما لا نريده لمصر.
ومع كل ما يمكن أن يؤخذ على هذه النتائج إلا أن زيادة الاستهلاك القومى تعتبر ضرورة للمحافظة على مستوى التشغيل والحد من البطالة، خاصة وأننا إذا تركنا الاستهلاك القومى وشأنه فإنه لن يرتفع مع ارتفاع الدخل إلا بكمية متناقصة، وذلك لثبات الميل النفسى للاستهلاك. ولذلك فإن إعادة توزيع الدخل القومى فى صالح الطبقات محدودة الدخل (ذات الميل المرتفع للاستهلاك) يمكن أن تلعب فى مصر دوراً هاماً فى رفع الاستهلاك القومى، والضرورى فى مراحل التنمية.
وفى النهاية ينبغى أن نذكّر الحكومة بأنه من الضرورى، فى حالة انتشار التضخم (وهو أمر متوقع الحدوث فى مراحل النمو)، أن نعيد توزيع الدخل القومى فى صالح الادخار وعلى حساب الاستهلاك. وهذه هى ما نسميها "بإعادة التوزيع الوظيفي" حيث يجب أن تتدخل الدولة بأدواتها، بميزان حساس، لتضبط المؤشرات الاقتصادية الكلية عند المستويات المقبولة (سواء مستوى البطالة أو معدلات التضخم). وأخيراً ننبه إلى أن السياسة المالية يمكنها أن تلعب دوراً هاماً فى خلق الادخار الإجبارى، خاصة عن طريق الاعتماد على الضرائب المباشرة (التصاعدية) والتى تفرض على الدخول، وعلى فائض الميزانية. الأمر الذى يسهم بفاعلية فى رفع معدلات الاستثمار ويدفع عجلة التنمية الاقتصادية إلى الأمام.
*أستاذ الاقتصاد السياسى والمالية العامة – جامعة القاهرة
لا توجد تعليقات على الخبر
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة