مبهجة.. تستطيعين قراءتها فى جلسة واحدة.. ستدفعك للكتابة عنها..
بتلك الملاحظات الثلاث لخص الكاتب الصحفى محمود صالح رأيه فى رواية "نابروجادا" للكاتبة سلمى أنور، عندما رشحها لى للقراءة، لم أعلق على ملاحظاته، ولكنى كنت على يقين أنى لن أقرأها فى جلسة واحدة كما قال، فهو يقرأ كـ"عداء إفريقى" لا يتوقف إلا عند خط النهاية، فطبيعى أن ينهى كتابا من 180 صفحة فى ساعة على الأكثر، القراءة السريعة لا تناسب أمثالى من أصحاب المزاج الفرنسى فى القراءة، فأنا أقرأ كما يأكل الفرنسيون.. على مهل.. أخطو كالسلحفاة.. ابتسم.. انفجر ضحكا..تملأ عينيا الدموع أحيانا مما أقرأ.. أعيد قراءة مقطعا يعجبنى.. أدون ما يثير اهتمامى.. أطوى صفحات كتابى كى أنقذ روحى من السقوط فى دوامة حزن على موت رفيق درب فى الصفحات فابتعد لحظات حتى أدرك أنه مجرد خيال.
"نابروجادا" توقفت قليلا عند اسم الرواية لم أفهمه، ولكنى تجاوزت غرابته واثقة أن الكاتبة ستُعنى بتوضيحه فيما بعد، ثم جاءنى الإهداء متصدرا البداية...
"إلى الرجل الوحيد بشوارب فى حياتى..
الرجل الذى لم يفارقنى بالموت، ولا أفارقه بالحياة.. أبى"
شعرت تعاطفا كبيرا مع الكاتبة فهى تفتقد أباها مثلما افتقد أبى، أشعر أن كل من فقدوا آبائهم لديهم قدرة على تفهم أوجاع بعضهم، على إدراك وجع اختفاء الدعم الأهم من حياتهم.
تجاوزت الإهداء، وما أثاره من حزن داخلى لم أنتظر أن تأتينى البهجة التى وعدنى بها صديقى من ذكرى أحباء رحلوا رُغما عنا، ولكنى تجاوزته، وأنهيت الرواية بالفعل فى جلسة واحدة على مدار أربع ساعات تقريبا قابلت خلالها شخصيات من بلاد مختلفة، يحملون طبائع أشد اختلافا تصل حد التناقض.
لم تكن صفحات الرواية القليلة دافعا كافيا لأنتهى من قرائتها بهذه السرعة، ولكن بساطة وأناقة الكتابة كانتا الأهم، أناقة سيدة تكتب، وكأنها تتزين بلا تكلف، فقط تتقن وضع ما يبرز جمالها، تنتقى ما يعبر عن روحها، وتمتلك لغة ينساب الحكى معها بهدوء، لا تُغرقك فى تفاصيل لا داعى منها، تقول ما تحتاج أن تقرأه دون أن تشعر بالملل، وتُضفى مزيدا من التألق على حكايتها بحُلى من الأشعار، والنثر زينت بها أرجاء الرواية فى عناية تشبه شغف عاشق يجمع أبهى أزهار البستان لمحبوبته، اختياراتها المتقنة زادت من متعة قراءة حكاياتها عن البلاد البعيدة.
قدمت "سلمى" نماذج إنسانية كثيرة، كانت للمرأة البطولة المطلقة فى أغلبها، قدمتهن جميعا فى سلاسة، وقبول للجميع رغم الاختلافات، تنتقل من نموذج لآخر فى انسيابية وبساطة، جمعتهن الدنمارك حيث سافرت البطلة للعمل فى إحدى منظمات العمل الإنسانى.
قبل سفر البطلة أطلت من جديد قصة رحيل الأب، شعرت معها أن ثمة تشابه بيننا ليس لأنها فقدت والدها فقط، ولكن فى حديثها مع السماء..
"يارب اغفر لى إساءة الأدب مع جلالتك لكن.. الآباء لا يمرضون يا رب.. الآباء لا يشيخون.. يموتون هذا لك.. لك بتسليم مطلق وصمت لا ينتهكه إلا ذكر اسمائك تصبرا.. لكنهم لا يضعفون أمام صغارهم الآباء لا يثيرون الشفقة فلماذا إذن أمرضت أبى؟
اعترضت البطلة على مرض والدها، تقبلت الموت، ولم تقبل أن يضعف أمامها، ذكرنى اعتراضها بغضبى القديم من السماء لرحيل أبى، ولكن احتجاجى كان أكثر عنفا وأقل تأدبا، كان رفضا قاطعا لرحيله، رفضاً تحول سنوات طويلة إلى انتظار، انتظر عودته، وكأنه لم يمت، وكأنه مسافر كما اعتاد مؤخرا، بطلة الرواية كانت تصرخ الآباء لا يمرضون، وكنت أعتقد أنهم لا يجب أن يموتون من الأساس.
سافرت البطلة تاركة خلفها حزنها على وفاة أبيها محاولة أن تبدأ من جديد فى بلاد بعيدة، ودعت القاهرة، وأنهت قصة حبها المشوشة –كان لدى أيضا ما يشبهها يوما- التى طالما وثقت أنها لن تفضى إلى شئ.
فى البداية قاومت رغبتى فى الكتابة عن "نابروجادا"، خشيت أن يفسر القارئ تحيزى للرواية لأنى وجدت فيها شيئا منى، لا لأنها مكتملة الجمال، شديدة الحُسن، تلقائية السرد، تشبه إلى حد كبير بهاء بطلتها.
كثير من الفتيات عبرن الرواية، وإن تشابكت الأحلام، وتقاطعت الرغبات، تبقى كل منهن حالة أنثوية متفردة تعبر عن مكنون المرأة بشكل ما، كان بعض التشابه مع البطلة عاملا جاذبا لى فى البداية، ولكن مع توالى الشخصيات أصبح التشابه مع بعضهن عامل جذب جديد، فمن الصعب قراءة رواية تزدحم بكل تلك الشخصيات، ولا تجدين تقاطعا بين روحك، وبين إحداهن فكانتا أوراش وهيلينا الأقرب بالنسبة لى.
- صباح الخير "أوراش"
-وما الذى يجعل هذا الصباح بالذات صباح خير؟ ها هو صباح آخر كباقى الصباحات.. لا داعى للمبالغة.
انتزع رد "أوراش" إعجابى، كانت هى الأقرب لى من شخصيات "نابروجادا" بعد البطلة، "أوراش" الفتاة الكندية ذات الأصول الكازاخستانية حادة المزاج المتأهبة دوما للاشتباك، والمعاركة فى أية لحظة ولأى سبب.. عبوة ناسفة متحركة، وإعصار بشرى مدمر.. كما وصفتها "سلمى".
أما "هيلينا".. الدنماركية التى عبرت عن مخاوف إمرأة تقترب من الأربعين تحلم أن يكون لها طفلا " سيأتى يوما أعجز فيه عن أن أكون حبلى.. أن أكبر.. أن أفنى.. أن ينتهى بى الحال كهاته العجائز فى دور المسنات واللائى لا يتفقدهن أحد على وجه البسيطة.. لن تنفعنى ساعتها أسفارى، ولا مغامراتى العاطفية بل سأصير كتلة نكدة من الجلد يكسو عظاما هشة تنتظر الرقدة الاخيرة"
الحقيقة أن "أوراش" لا تختلف كثيرا عن "هيلينا" نفس الهاجس، وإن اختلفت التوابع "هيلينا" تعانى إحباطا لارتباطها برجل لا يريد أن يمنحها طفلا، لا يريد أن تتحول صورة حبيبته المغامرة الرحالة إلى نسخة تقليدية من ملايين الأمهات، و"أوراش" تواجه الحياة بمزيد من العدوانية، والغضب لأنها تحب رجلا لا يريد الزواج، فسعادتهما تعلقت بالرجل الخطأ، فأسوأ جريمة ترتكبها المرأة فى حق نفسها أن تقع فى حب الرجل الخطأ.
وفى النهاية تظهر إنستينا لتضع حداً لغربة البطلة، وتجعلها فى مواجهة مع ذاتها، وماذا تريد، فسألتها
- من أين أنت؟
- من مصر
أين تحبين أن تكونى الآن؟
- مصر
- عم تبحثين؟
- عن الحب
- كيف تحبين أن يكون حبيبك؟
- صعيدى
- كيف تتخيلين رجلك الجنوبى؟
- أسمر.. ربما بوجه صخرى فيه مسحة من صلابة وخشونة.. عينان بنيتان.. نظرات حادة إذا ما غضب.. وحانية مخترقة للروح ذاتها إذا ما صفا.. وله لكنة جنوبية ثقيلة على أذنى القاهرتيين.. أحيانا يقول ألفاظا جنوبية لن أفهمها.. وحين أسأله عن معناها سيضحك.. فأضحك لضحكه.
من جديد يطل التشابه مع البطلة، فارس الأحلام الصعيدى قاسما آخر مشتركا بيننا، غير أنى كنت لأتنازل عن العيون البنية راضية، يكفى أن يكون جنوبيا بلا شروط.
عادت البطلة، وتركت خلفها صقيع نابروجادا، وأخيرا وجدت أنا البهجة التى وُعدت بها قبل أن أبدأ الرواية، فأى نهاية تبعث البهجة فى النفس أكثر من نهاية رحلة مرهقة فى بلاد باردة، باستقرار مع رجل صعيدى، وابنة تشبهه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة