كانت المركب تقل أكثر من 250 مصريا وأجنبيا، كلهم تحركوا من سواحل رشيد قاصدين إيطاليا، كانوا يركبون مركبين أحدهما للمصريين والآخر للأجانب، ولكن سماسرة الموت وأصحاب السفن ضنوا بهما فأركبوا المصريين والأجانب فى مركب واحدة قد لا تصلح لركوب 50 شخصا. غرقت المركب، وأغرقت معها دموع الثكالى واليتامى والأرامل تراب مصر، غرقت معها مصر فى الدموع والآلام والأحزان، استعادت مصر مع هذه الكارثة أسوأ كارثة غرق فى تاريخها «غرق عبارة السلام»، مئات لم يدركوا حلم الهجرة ووطنها «إيطاليا» الذى ظنوه أفضل من وطنهم، ولم يدركوا وطنهم، ولم يدركوا الحياة، ولم يدرك بعضهم قبرا فى وطنه.
لقد ضنت عليهم أوطانهم بالعمل الكريم والحياة الكريمة وضنت على بعضهم بالكفن والقبر، لقد بلغ من فجور أصحاب المراكب تجار الموت مبلغا جعلهم يدشنون صفحة للهجرة على الفيس بوك ووضعوا صور الآلاف الذين هاجروا على متن مراكبهم وكيف ابتسمت الحياة لهم فى إيطاليا، حدث هذا دون رقيب أو حساب، إنها الفوضى المصرية المعتادة، إنهم سماسرة الموت ونواب ملك الموت فى الأرض.
إن أغرب ما فى قصة هذه المحنة الكبرى أنها أول مرة فى تاريخ مصر يقامر زوج بزوجته وأولاده بهذه الطريقة المحفوفة المخاطر، كان الرجل يقامر بنفسه دون أن يدخل أسرته فى مقامرته، واليوم هناك أطفال فى الخامسة عشرة من عمرهم، ترى ما هذا اليأس الذى ملأ قلوبهم؟ ولماذا كل هذه التضحيات الجسام؟ لقد صدق من قال: «لا يلقى أحد بنفسه فى الماء إلا إذا كان يعيش فى النار».
لقد مرت مصر بظروف أقسى من ذلك، ولم يفقد الشعب الأمل فى غد أفضل، فلماذا أصاب الشباب اليأس الشديد هذه الأيام؟ أعتقد والله أعلم أن ثورة 25 يناير رفعت سقف طموحات الشعب المصرى إلى أعلى الطموحات ثم نزلت به إلى الأرض، ثم جاءت 30 يونيو فرفعت سقف أحلامه إلى السماء ثم نزلت بها إلى أسفل سافلين، حيث إن الأسعار غلت، والرشوة زادت، والتعليم ازداد سوءًا، والصحة ازدادت انهيارا، وكل الخدمات أصبحت أسوأ من قبل يناير 2011، وأغلى منها بكثير، لقد توقف المصرى البسيط عن الحلم وهو يرى أنه أصبح نكرة فى وطنه، فقبل المقامرة رغم حرمتها، ولم يردعه قوله تعالى «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ» رغم وضوحه فاستوت لديه حياته وموته.
هذه المحنة إنسانية اجتماعية اقتصادية أخلاقية بالدرجة الأولى، ولن يعالجها القانون وحده، فلدينا أكبر ترسانة قوانين يتفنن الكبار وأصحاب الطول فى اختراق منظومتها، وهى لا تظهر إلا للغلابة مثل سائق القطار أو عامل التحويلة أو.. أو... هذه الكارثة الإنسانية ينبغى أن توقظ المجتمع المصرى كله، فهى تعنى أن هناك خللاً جسيمًا فى المجتمع ينبغى معالجته، كيف يضيق المصرى بوطنه، وكيف يغامر بأسرته هكذا. هل وصل الحال بمصر هكذا وبالمواطن هكذا؟ فهل نفيق للعلاج أم أن إفاقتنا كالعادة ستكون مؤقتة وتعالج ظواهر المرض كعادتنا دون الدخول على حقيقته وجوهره؟ اللهم ارحم الموتى وارزق أهليهم الصبر والسلوان وعوضهم عنهم خيرا، فالغريق شهيد.