منظومة القيم والأخلاق صالحة لكل زمان ومكان، لا يعتريها تغيير، ولا يتسرب إليها ما ليس منها مما هو دخيل، فهي من الثوابت الباقية والمسلَّمات الخالدة، التي تأخذ بيدِ من تخلَّق بها إلى النعيم في دار الخلود، كما أخبرنا الله سبحانه بقوله: ﴿تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[القصص: 83].
وهوشيء مطرد لافت للنظر يلاحظ بوضوح في منظومة القيم والأخلاق، ومثلها المبادئ والقواعد والسنن الأساسيَّة لحركة الإنسان في الكون، التي تتسم بأنها محصورة ومتفق عليها ومقبولة لدى الأفراد والجماعات والدول؛ لذلك تلقتها العقول بالقبول، وتواردت الشرائع لإحيائها في النفوس وترسيخها في العمل، بل والدعوة إلى التعايش بين الخلق بعضهم بعضا من خلالها.
ذلك من حيث المبادئ، أما المصلحة، فإن الشرع الشريف كشف عن أن طبائع الخلق فطرت على ضرورة السعي لتحصيل مصالحهم ودفع مفاسدهم، وفي ذلك يوصيصلى الله عليه وسلمبعض أصحابه الكرام قائلا: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ واستعن بالله ولا تعجز»(رواه أحمد).
ورغم تقرير ذلك نجد أن الشرع الشريف بيَّن في الوقت ذاته أن المصلحةَ الحقيقيَّة هي التي لا تخالف قيمة أو تعارض مبدأ، وإلا انقلبت إلى مفسدة، فضلا عن إلحاق الضرر بصاحبها قبل أن تؤذي غيره، بل قد يستشري شررها إلى نسيج المجتمع، فتسبب احتراقا للأخضر واليابس.
حقًّا إذا صارت المصلحة إلى هذا المصير وتلبست بهذا المعنى فقد انتكست ولم تَعُدْ مصلحة إلا في ذهن صاحبها المتشبث بها، وتحولت إلى ضَرْبٍ من الوهم والخيال، ومن ثَمَّ يُخشَى على المتلبس بها والـمُصِرِّ عليها أن يوصف بشيء مما ورد في قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾[الكهف: 103- 104].
والحقُّ أن المصلحة المعتبرة هي تلك التي تجلب نفعًا واقعًا حقيقيًّا لا يتخلله الوهم في مقدماته وأسبابه وفي نتائجه وآثاره، وألا يلحق تحصيلها إلى ضرر بأحد، فضلا عن المجتمع كله، أو تخالف خُلُقا أو مبدأ مستقرا تواطأ الناس على نفعه والالتزام به.
ولقد حفل القرآن الكريم والسنة النبويَّة الشريفة بإرساء هذا المقاصد العظيمة وهذه المعاني النبيلة، التي تقرر عدم تقديم المصلحة على القيمة أو المبدأ، مع تقريب المعنى بضرب الأمثلة لكل منهما، ومن ذلك قوله عز وجل:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾[التوبة: 6].
فقدم هنا قيمة الجوار على أية مصلحة متوهمة وغير حقيقيَّة في التعامل مع المخالف في العقيدة، ومثال آخر واقعي في إصرار بعض القبائل والعصبات على «الأخذ بالثأر» ممن قتل أحدًا منهم أو من أحد أقاربهم؛ إذ لو تم قتل القاتللكان هناك افتئاتعلى حق القاضي والحاكم والمجتمع، حيث تواترت النصوص على أن تطبيق هذه الأحكام في الدماء وغيرها بين الناس يرتبط بولي الأمر وبمن ولاه، سواء في القضاء والتحقيق (السلطة القضائية)، أو في التنفيذ (السلطة النفيذية).
ويزداد التفكير والتطبيق سوءا عندما يقتل أهل القتيل أحدا غير القاتل أخذا بالثأر، فيخالفون ما سبق كله، فضلا عن المبدأ القرآني القائل بشخصية العقوبة في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾[الأنعام: 164].
وفي السنة النبويَّة والسيرة العطرة ما يؤكد هذا المعنى تطبيقا وتحقيقًا،؛إذ نجد أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم دائمًا يقدم القيم والأخلاق على المصالح؛ لأنه أسوة وقدوة في الدعوة إلى الله تعالى، والعمل بعكس ذلك يضر الدعوة ويفسد المجتمعات.
فعن حُذَيفة بن اليَمَان رضي الله عنه قال: ما منعني أن أشهد بدرًا إلا أني خرجتُ وأبي حُسَيْلٌ. قال: فأخَذَنا كفارُ قريش فقالوا: إنكم تريدون محمدًا. فقلنا: ما نريده، ما نريد إلا المدينة. فأخذوا منا عَهْدَ الله وميثاقه لننصرفن إلى المدينة ولا نقاتلُ معه، فأتينا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرناه الخبر فقال:«انصرفا. نَفِي لهم بعهدهم ونستعين الله عليهم».(رواه مسلم).
في هذا المشهد الأخلاقي الخالد يرسخ النبي صلى الله عليه وسلم لمنظومة القيم التي جاء ليدعو إليها في التعامل مع الكون كله، فنجده وهو في حالة حرب مع مشركي مكة، وهم قد ألجئوه للخروج من بلده وشردوا أصحابه ونهبوا حقوقهم، نجده يحافظ على ما يدعو إليه من الأخلاق والمبادئ، فقدم المبدأ القرآني القائل: ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾[الإسراء: 34]، وبما قاله هو صلى الله عليه وسلم: «أَدِّ الأمانةَإلى من ائتمنك، ولا تَخُنْ مَن خانَكَ»(رواه أبو داود والتِّرمذي).
ولا شك أن غياب هذا المعنى نتج عنه وجود التفكير والخطاب المعوج، وأصبحنا نعاني من طرفين أحلاهما مر، طرف متشدد قميء يتخذ الدين مطية لتحقيق أهوائه وأغراضه الشخصيَّة في حب الظهور وادعاء امتلاك الحقيقة ووضع الدين سيفا مُسلطا على رقاب الناس، والدين من ذلك بقيمه ومبادئه براء، بل يحذر من مثل هؤلاء في قوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ﴾ [الجاثية: 23]، وبسبب ذلك صرنا نرى من يهدر دماء الناس وينتهك حرماتهم ويقع في أعراضهم وينهب أموالهم باسم الدين؛ لأنه قد غاب عنه تلك القاعدة الأصيلة: «لا مصلحة مع غياب المبادئ أو القيم».
وعلى الطرف الآخر نجد المنحرف الذي غاب عنه هذا المعنى يقع في براثن الفساد والإهمال والرشوة، ودليله المأسوف عليه في ذلك، أن مصلحته تقتضي أن يرتشي أو يكذب أو يخون أو لا يتقن عمله أو يتخلى عمن أقامه الله عليهم، كالزوج مقابل زوجته وأسرته.
وبذلك فإن التشدد الديني والانحراف والفساد الأخلاقي وجهان لعملة واحدة، استأثر أصحابهما بأنفسهم وأداروا ظهورهم لتلك الحقيقة الكبرى، التي دعت إليها كل الأديان ورسخها وأكد عليها الإسلام، وهي أن: « لا تقديم للمصلحة على المبادئ أو القيم» بل جعلها سبيلا قويما للحماية من السقوط والخذلان، سواء للأفراد أو للمجتمعات، ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: 117].
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة