نسى الكاتب الكبير معاركه الفكرية التى لا تنتهى وأدار ظهره هناك للدنيا بما فيها
جلس يوسف إدريس، رائد القصة القصيرة، بجوار الروضة الشريفة، تغير كل شىء فيه فجأة، تلذذ بطريقة غير مسبوقة بهذا الجو الروحانى البديع، طاب له المقام، تأثر كثيراً بلحظات القرب من صاحب الدعوة الأول، تساقط على عقله وابل من الأسئلة: فكتب عن ذلك «بينما أنا مستغرق فى دعائى لنفسى وأسرتى وأصدقائى هبط على خاطر عجيب كأنما هو منزل على من أعلى عليين: «وماذا لو استجاب الله لدعائك يا يوسف وحفظ عليك صحتك وعلى أسرتك سعادتها وعلى أصدقائك حياتهم، أهذا منتهى الوصول؟ ما فائدة أن تحل البركة والخير على تلك المجموعة الصغيرة من الناس فى مجتمع يعانى ما لا طاقة له به».
هكذا لم يحج يوسف إدريس بقلبه ومشاعره فحسب، ولكن بعقله وخياله، فقد جلس القصاص الكبير والأديب المتميز إلى جوار قبر النبى «ص» ودنا من القبر فى أسعد لحظات تأمله، سائلاً نفسه: «هذا إنسان من بنى البشر اصطفاه الله سبحانه ليكون رسولاً ومبشراً بالإسلام العظيم فماذا فعل؟ لم يكتفِ بتبليغ الرسالة إلى أولى القربى منه أو إلى قريش وإنما جعل همه إسعاد البشرية فى الجزيرة والدنيا كلها، وآمن برسالته إيماناً جعله يتحمل الأذى والنفى والهجرة وقتال المشركين الضالين».ويردف قائلاً: «إن محمداً رجل واحد ولكنه استطاع بعون الله وقوته وبإيمان يجل عن الوصف أن يغير أناساً يعيشون فى عصر الوثنية والبداوة، ويصنع منهم أعظم أمة على وجه الأرض تهزم أكبر إمبراطوريتين فى عصرهم، وتحطم إيوان كسرى وتقوض عرش الروم وتنشر الإسلام من بواتييه فى فرنسا إلى الصين فى أقصى الشرق. لقد شعر يوسف إدريس بالاطمئنان والأمان وذاق حلاوة الإيمان فى الروضة الشريفة، فأخذ يتذكر كل أحبائه وأصدقائه، ويدعو لهم بعد أن صلى ركعتين فى الروضة، ثم فاضت مشاعره الإيمانية، فأردف قائلاً: «ارتكنت إلى عمود من أعمدة الحرم النبوى الشريف أراقب الإيمان مجسداً على الوجوه، يا لحلاوة الإيمان حينما تكسب الوجه البشرى جمالاً نابعاً من القلب وموجهاً إلى المولى سبحانه».
ويستمر يوسف إدريس فى وصف مشاعره الإيمانية، قائلاً «وجاءتنى مصر وأنا مرتكن أمارس متعة الابتهال بلا صوت، والتأمل بلا انقطاع، جاءتنى مصر بشعبها ومشاكلها وحاضرها ومستقبلها فرحت أدعو للشعب المصرى وللمسلمين جميعاً». ثم فاضت مشاعره الجميلة نحو الناس، فقال: إن المسلم الحقيقى لا يسعد إلا فى مجتمع متكامل السعادة، ترفرف فيه السكينة على الجميع. وظل يوسف إدريس يدعو حتى وجد نفسه يبكى بكاءً لم يحدث له من قبل، حتى وصف هذا البكاء بقلمه «ليس بكاء حزن ولا بكاء إشفاق على النفس والشعب، وليس بكاء مذلة وإحساس بالضيم، ولكنه بكاء المحب لحبيبه، البكاء الواصل بين الله والإنسان، البكاء المستلهم من حياة الرسول، بكاء التأمل فى الآيات البينات».
لقد نسى الكاتب الكبير معاركه الفكرية وصراعاته الأدبية العنيفة التى لا تنتهى، وأدار ظهره هناك للدنيا بما فيها، فظل يدعو بلا توقف «يا رب لا تمنحنى الصحة وشعبى مريض، ولا الرزق الوفير وشعبى يشكو الفاقة، أو سلامة النفس وشعبى يطحنه القلق». ورغم بساطة هذه الأدعية التى ألفها الكاتب لنفسه ولم يسبقه إليها أحد وهى غير معتادة فى الدعاء فى مثل هذه المواطن، إلا أنها تدل على أنه يريد الخير للناس جميعاً، ويحب السعة والرزق والسكينة والأمان للجميع، فما فائدة أن يسعد هو ومن حوله تعساء، أو يشبع وحوله الجوعى فى كل مكان، أو يطمئن والقلق يأكل الجميع، فالأنانية والأثرة تختفى فى مثل هذه المواطن الشريفة وبجوار نبى الرحمة الكريم الذى كان يضحى ويبذل من أجل الجميع. فأفضل ما صنعته رحلة الحج فى نفس يوسف إدريس هو بعث السكينة والطمأنينة إلى نفسه القلقة، حتى أنه قال تفكرت كثيراً فى قوله تعالى «هُوَ الَّذِى أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِى قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ». لقد غيرت رحلة الحج الكثير والكثير فى قلب ونفس وعقل يوسف إدريس، وقد سطر ذلك كله فى كتابه الشهير «إسلام بلا ضفاف» ذلك الكتاب الإيمانى الذى ينبغى على كل من يريد التعرف على يوسف إدريس أن يقرأه لينصف الرجل، ويخرجه من دوائر الشك، والاتهام إلى الإيمان واليقين والحب فى الله والحب للناس، رحم الله يوسف إدريس، ولا حرم الله أحداً من نفحات الحج الإيمانية.