الجوع كافر، ليس تعبيرًا شعبيًّا عابرًا قاله جائع ومضى، هو فى الحقيقة جملة بسيطة تلخص واقعًا صعبًا، يودى بمن يفلت من قبضة الشبع إلى حالة من القسوة والنقمة والخروج على كل قيمة وثابت، والآن، أو بعد ساعة أو ساعتين، وأنت تلتف حول مائدة عشائك أو إفطارك، يقاسمك الأهل والأحبة اللقمة والغموس، هناك بطون فارغة، لا تطال إلا أطباقًا فارغة، تعرف جملة "الجوع كافر" وتختبرها، وتجلس تحت رحمة قروشها القليلة وجوعها الكبير، هل فكرت يومًا فى هذه البطون؟ وهل تخيلت سببًا مقنعًا لجلوسها الهادئ المنكسر هذا؟ لعلّه الأمل، أو الخير الخفى الذى يرسله الله عبر أيد بيضاء وقلوب مفتوحة على حاجات الناس، لعلّها التضحية البسيطة التى قد تمر عينك عليها بنصف التفاتة وربع دهشة، دون توقف أو تفكير.
مبادرة العتومنى لتوزيع الخبز مجانا لمدة ساعتين يوميا
فى بقعة جغرافية على هامش الواقع، رغم أنها فى قلب المدينة، وبالقرب من شريانها الأكبر، تمرّد شاب حديث العمر والتجربة، باعتبار السن والرقم المدون فى خانة الميلاد، كبير الروح والرحمة والإحساس بالناس، تمرّد على جملة الجوع كافر، وقرر أن يوزّع الإيمان على الناس، يوزّع الخبز على الجائعين والمحتاجين، هكذا لوجه الإنسانية والمحبة، ودون حاجة أو غرض، الحقيقة أن النظرة البسيطة للموضوع تؤكد أنها ربما تكون خسارة، فى حسابات الجنيه والبيع والشراء، ولكنها مكسب فى حسابات أخرى، بالتأكيد كان "العتمونى" يضع عينه عليها وهو يرفع الرغيف الساخن فى وجه الجوع بكفره وبرودته وقسوة قلبه.
طفلة تحصل على الخبز المجانى من مخبز محمد عوف
حكاية العتمونى.. الشاب الثلاثينى المنحاز لمصر وفقرائها
محمد عوف العتمونى، شاب لا يتجاوز عمره 35 سنة، أنهى تعليمه الجامعى وحاز ليسانس الحقوق، إلى الآن لا جديد فى القصة، المختلف أن الشاب الثلاثينى الذى يدير مخبزًا بلديًّا، ربما أسّسه بجهده وعرقه بعد تأخر الوظيفة الحكومية أو فرصة العمل المناسبة فى شركة هنا أو مكتب هناك، وربما يكون ورثه عن أب أو عائلة، فكان المخبز نجاة له من شبح البطالة، فى الحالتين لا يمكن أن يكون المخبز أكثر من فرصة للعمل والكسب، لتوفير الاحتياجات الشخصية وتحقيق قدر من الادخار، لتحسين مستوى المعيشة والترقى الاجتماعى، ولكن الشاب المختلف لم يفكر هكذا، فكر بشكل مختلف، فكانت جدارة القصة بأن تكون مضرب مثل فى "بيجام" وشبرا والقليوبية وعلى صفحات "اليوم السابع".
سحلجى يرص ويعد العيش
"العتمونى" يدير مخبزه البلدى فى منطقة "بيجام" بشبرا الخيمة، وبعيدًا عن حسابات البيع والشراء، والمكسب والخسارة، وقدر الإنتاج وحجم الدعم الذى سيسترده من الجهات الرسمية، بعيدا عن الكشوف وتعقيداتها، قرر محمد عوف أن يصنع حكايته الخاصة مع الانتماء لهذا البلد وأهله، وتجسيد هذا الانتماء بشكل عملى، خارج الشعارات والجمل الرنانة والتنظير المجانى، فقرر توزيع الخبز مجانا على فقراء المنطقة ومحتاجيها، ساعتين يوميا، وقبل أن تتخيل أن الفكرة قد تكون تكرمة تجار وأبناء سوق، وأنه يوزع فوائض الخبز وما يتبقى من البيع، يسعدنى أن أخبرك أن التجربة تخلص للفقراء والطيبين ومن يشقون على قوت يومهم ويهدّهم التفكير فى تدبيره، أكثر من إخلاصها للتجارة، فالرجل يوزع أول إنتاجه وافتتاح رزقه على الناس، من الساعة السادسة حتى الثامنة صباحا، ويواظب على هذا منذ بدأ تجربته مطلع يناير 2017.
طفل آخر يحصل على الخبز المجانى من مخبز محمد عوف
"اليوم السابع" فى جولة الخير.. أهالى "بيجام" فى ساعتى الخبز المجانى
"اليوم السابع" التفت إلى هذه التجربة الإنسانية التفاتة دهشة وإعجاب، وبينما يقف شاب فى منتصف عقده الرابع، معبرًا عن حبّه لمصر وناسها بالتجربة العملية، كان حقّ الإعجاب أن نزوره ونعيش معه التجربة ونسمع تفاصيلها منه ومن أهل المنطقة، ذهبنا إلى "مخبز العتمونى"، وسألنا أهالى "بيجام"، الذين أكدوا أن هذا المخبز يعمل يوميًّا من السادسة صباحًا حتى السادسة مساء، وأن الشاب محمد عوف، صاحب المخبز، يخصص أول ساعتين لتوزيع الخبز فائق الجودة مجانًا، مناشدين كل أصحاب المخابز والتجار ورجال الأعمال وأصحاب المشروعات بأن يحذوا حذو هذا الشاب، وأن يخصصوا حصة ولو ضئيلة من إنتاجهم للفقراء والغلابة، لعلّها تكون عونًا للناس على الجوع ومصاعب الحياة وفاتورتها الكاوية للجسم والعقل والروح.
الزميل أحمد عبد الهادى بكير والمواطنون وصاحب المخبز يلتقطون صورة تذكارية
أهالى المنطقة: بيوزع عيش فاخر.. والمخبز بيزدحم كل يوم فى الساعتين دول
تحدثنا مع الأهالى، فقال لنا أحد المواطنين، إن صاحب المخبز، الشاب محمد عوف، واحد من أهل "بيجام" المحترمين، يحارب الغلاء ويوزع العيش ساعتين مجانا فى اليوم، بالبطاقة ومن غير بطاقة، متابعًا: "المخبز بيزدحم كل يوم فى الساعتين دول، وأناشد كل صاحب مخبز ومصنع ومشروع فى البلد يعمل كده، يا ريت الكل يقلدوا محمد ويعملوا زيه، علشان نقضى على الغلاء ونتكافل ونتكفل ببعض، ونخفف معاناة الناس".
الأهالى وصاحب المخبز والأطفال
وقال مواطن آخر، يدعى سامى عوض، إنه اشترى خبزًا من الدرجة الممتازة بالبطاقة، بسعر 5 قروش للرغيف، مؤكّدًا أن صاحب المخبز يوزع الخبز مجانا من 6 حتى 8 صباحا، بشكل يومى، بجودة رغيف عالية.
الزميل أحمد عبد الهادى بكير يتحاور مع مواطنة تحصل على الخبز المجانى
وقال مواطن آخر، إن فرن محمد عوف العتمونى يعمل من 6 حتى 8 صباحًا مجانًا، وبعد الثامنة صباحًا يبيع الرغيف بـ5 قروش، وقال إكرامى غلاب "محامٍ": "نرسم بسمة أمل للناس فى أول كل يوم، وقدمنا اقتراح لصاحب المخبز، الحاج محمد، والفكرة عجبته ونفذها لوجه الله تعالى، والجمعيات الخيرية ترسل خطابات للمخبز مختومة بأختامها، ويتم إرسال العيش لغير القادرين دون كارت أو فلوس"، بينما أكدت مواطنة أنها تحصل على العيش من المخبز منذ أسبوع، وتشكر صاحبه على المبادرة.
ويضيف "غلاب" فى حديثه مع "اليوم السابع": "تم تخصيص ساعتين يوميًّا لتوزيع الخبز مجانا لكل الناس، وأناشد كل التجار ورجال الأعمال، كل فى مجاله، بأن يحاولوا مساعدة الناس ولو بالقليل، لرسم بسمة أمل على وجوههم، حتى تمر مصر من الظروف الصعبة التى تشهدها وتعبر لبر الأمان".
فران داخل المخبز
محمد عوف العتمونى: مبادرتى تجارة مع الله.. وسعيد بفرحة الناس واتصال المحافظ
ومن الأهالى وشهود المبادرة، إلى صاحبها ومنفذها، تحدث "اليوم السابع" مع محمد عوف العتمونى، صاحب المخبز، الذى قال إن فكرته تجارة مع الله، من خلال توزيع الخبز على المحتاجين من أهالى المنطقة وشبرا الخيمة بالكامل لمدة ساعتين، من السادسة حتى الثامنة صباحًا، سواء ببطاقة النقاط التموينية أو بدون بطاقة، لأن التجارة مع الله مربحة عن أى تجارة، ومكسبها أكبر من أى مكسب، مؤكّدًا أنه يوزع من 2500 حتى 3000 رغيف يوميًّا، منذ بدأ تنفيذ مبادرته.
وأضاف "العتمونى"، أنه رغم تكلفة الخبز الذى يوزعه مجانا، وجد أن أرباحه لم تقل، بل على العكس زادت، مؤكّدًا أنه سيستمر فى هذه التجارة مهما واجه من مصاعب أو أى ظروف ضاغطة، وأن هدف هذه المبادرة مساعدة مصر فى محنتها وظروفها الصعبة، متابعًا: "أطالب كل الناس اللى بتحب مصر بمساعدتها، لأن كلنا عايشين فيها، واتربينا فيها، والمفروض كل واحد مخلص وشريف يقف جنب بلده".
صورة تذكارية مع صاحب المخبز والأهالى
وتساءل صاحب المخبز فى حديثه لـ"اليوم السابع": "فين الناس اللى بتحب مصر؟ لازم نقدم مبادرة فى حب مصر، ولازم نتكاتف جميعًا ضد الغلاء"، موضّحًا أنه الابن الوحيد لوالده، وورث هذه المهنة أبًّا عن جد، إذ تحترفها العائلة منذ مائة عام تقريبًا، وله 24 من أبناء عمومته يعملون فيها، ولكنه الوحيد فيهم الذى يمتلك مخبزًا تبلغ طاقته اليومية 29 شيكارة دقيق.
وخلال لقاء "اليوم السابع" بصاحب المخبز، هاتفه اللواء عمرو عبد المنعم، محافظ القليوبية، وشكره على تلك الخطوة الإيجابية، وشجعه على الاستمرار فيها لخدمة فقراء بيجام وشبرا الخيمة، الذين تجلّت مشاعرهم الإيجابية نحو المبادرة وصاحبها، فى كلامهم وتعليقاتهم ونظرات عيونهم، وأكد صاحب المخبز سعادته بفرحة الناس، وباتصال المحافظ، وأنه بسبب كل هذه الفرحة والمحبة سيستمر فى مبادرته ملمحاربة جشع أصحاب المخابز الآخرين، ومحاربة النهب، مناشدًا فى الوقت ذاته أصحاب المخابز المحبين لهذا الوطن، ولشعب مصر، وأصحاب المشروعات الأخرى والتجار ورجال الأعمال، بالتضامن معه فى مبادرته ضد الغلاء، والوقوف معه فى خندق دعم الفقراء ومساندتهم، ومحاربة "الجوع الكافر".
عجان داخل المخبز