لقد أقرت الشريعة الإسلامية، عصمة دماء رعاياها وأموالهم وأعراضهم فى سائر الأقطار التى تخضع لسلطانها. وقد عرف الإسلام حرمة دم المسلم وغير المسلم، بل قرر لغير المسلم من الأحكام والحقوق ما قرره للمسلم، فقد منع الإسلام التعرض لغير المسلم بالقتل قبل دعوته للدخول فى الإسلام أو بذل الجزية، إن كان ممن تقبل منهم الجزية. والجزية التى جُعلت غاية ينتهى عندها القتال هى فى ذاتها ليست لعلة المال، حيث يتخلص غير المسلمين منها بالدخول سلمًا فى الإسلام، أو أنها مقابل حمايتهم والدفاع عنهم بما يوجبه عقد الأمان، ولذا يستعاض عنها ببدائل أخرى كتحولهم من محميين بجنود المسلمين إلى مشاركين فى الحماية للأوطان بانخراطهم فى صفوف جيوش المسلمين. وعليه فإن ما يدعيه بعض الجهلاء من كون علة الجهاد هى عدم الدخول فى الإسلام، فيقومون بناء على ذلك باستحلال دماء غير المسلمين من مواطنى الدول الإسلامية، من التدليس الممقوت فى شرعنا الحنيف.
وقد أقرت الشريعة الإسلامية قبول إذعان غير المسلم للإسلام، ولو كان ذلك بشبهة ضعيفة لا تدل يقينًا على دخوله فى الإسلام، وقد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يوصى أمراء السرايا وجنود المسلمين بذلك قبل توجههم إلى البلاد والأقطار التى فتحوها فى مشارق الأرض ومغاربها، ولا أدل على ذلك من إنكار رسول الله، صلى الله عليه وسلم، على أسامة بن زيد، قتله رجلًا بعد أن قال: «لا إله إلا الله»، فقال النبى منكرًا: «يا أسامة، أقتلتَه بعد ما قال لا إله إلا الله؟!»، فقال أسامة: «يا رسول الله، إنما قالها متعوِّذًا!»، فقال النبى الكريم: «أشققتَ عن قلبه؟!»، مع أن ظاهر حال الرجل يدل على أنه لم يقلها اعتقادًا، بل خوفًا.
وقد عرف الإسلام سائر عقود الأمان من معاهدات سلام مؤقتة تسمى موادعة، أو مؤبدة تسمى بعقد الذمة، وهو ما يمكن تسميته فى عصرنا بالمواطنة الكاملة، حيث تلاشى مفهوم الذمة فى إطار تنظيم القوانين للعلاقات التى تربط بين مواطنى الدولة من غير تفريق بين أتباع الديانات المختلفة، كما عرف الإسلام الأمان الخاص الذى يسمى غير المسلم بموجبه مستأمنًا، وقد ألزم الإسلام بالوفاء بتلك العقود، سواء أكان غير المسلم فى بلاده كما هو الحال فى الموادعة، أم كان فى بلادنا على سبيل التأبيد كالمواطنين غير المسلمين، أو التأقيت كالمستأمنين، وهم السفراء والسياح والتجار ونحوهم. وقد حرم الإسلام الاعتداء على معاهد فى مدة عهده، وقد تجلى ذلك فى حرمان قاتله من شم رائحة الجنة، فضلًا عن دخولها، حيث يقول النبى، صلى الله عليه وسلم، «من قتل معاهدًا لم يُرِح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين خريفًا».
ونخلص مما تقدم إلى أن جميع رعايا الدولة المسلمة، مسلمين وغير مسلمين، سواء فى حرمة الاعتداء على شىء من أموالهم أو دمائهم أو أعراضهم. ومن الاعتداء ما يسمى بالحرابة أو الإفساد فى الأرض أو قطع الطريق، وقد ذكرنا فى مقالة سابقة أن الحرابة ممتنعة فى حق رعايا الدولة من المسلمين وغيرهم بغير خلاف. ونستطيع القول إن مجمل ما ترجح من آراء الفقهاء حول هذا الأمر ينطبق تمامًا على ما يعرف بالإرهاب فى عصرنا، حيث إن الحرابة تعنى إخافة السبيل، وليس من شرطها على الراجح أن تكون بواسطة السلاح، أو خارج العمران، أو مقصودًا بها المال، أو كون المجنى عليه من المسلمين.
وعلى ذلك، فإن المروعين للآمنين فى عصرنا ممن أخافوا السبيل واستباحوا دماء المواطنين والمعاهدين وأموالهم وأعراضهم، فقاموا بتفجير المنشآت، أو قتل المدنيين ورجال الأمن على الطرقات وفى نقاط التفتيش والحراسة، أو اجترأوا على خطف وسائل النقل، أو السطو على المتاجر والمصارف لسلب الأموال، أو غير ذلك مما يعد من إخافة السبيل، ينطبق على هؤلاء حكم الحرابة والإفساد فى الأرض، يقول الله تعالى: «إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِى الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْىٌ فِى الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِى الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ». ومن ثم، فإن للحاكم إن قدر عليهم أن يعاقبهم بما يراه رادعًا لهم ومانعًا من إفسادهم فى الأرض، فإن كانوا جماعة لهم شوكة ومنعة، فله أن يقاتلهم كما يقاتل البغاة، فما أصاب من دمائهم وأموالهم مما اقتضته الحرب معهم فهو هدر، فإن تابوا قبل القدرة عليهم سقط عنهم حد الحرابة، وعليهم حقوق الناس.
ومن ثم، فإن الأعمال الإرهابية إن كانت بقصد ترويع الآمنين بأمان الدين أو الدار بإزهاق أرواحهم، ونهب أموالهم أو إتلافها، وهتك أعراضهم وحرماتهم، فإن ذلك من الحرابة والإفساد فى الأرض، لأن الحرابة هى الاعتداء بغير حق ولا شبهة، وتكون بالخروج على المارة مغالبة من جماعة أو فرد له قوة قطع الطريق، حتى ولو بغير سلاح، وتكون فى الصحراء والعمران والبحر والجو، وتكون ليلًا أو نهارًا.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة