إن الحقيقةَ الواضحةَ تقول: "لولا الإنسانُ ما كانتِ الأديانُ"؛ إذ الإنسان ليس محورًا للأديان فحسب، وإنما هو محورٌ للكون كله، وهو المخلوق الذى كُتب عليه أن يتحمل ما لم يَرْضَ ما هو أشدُّ بأسًا فى الظاهر أن يتحمَّله، حيث قال اللهُ تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ}[الأحزاب: 72].
وفى هذا دليلٌ كافٍ على أن هذا المخلوقَ الذى لا يساوى نقطةً فى حيز المخلوقات الأخرى المذكورة فى تلك الآية، هو المنوط به التكليف والاستخلاف، فقال سبحانه:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّى جَاعِلٌ فِى الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّى أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[البقرة: 30].
وحتى يحقق ذلك الاستخلاف على الوجه المراد، سخَّر اللهُ له الكائناتِ كلَّها لخدمته ، فقال عز وجل: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِى السَّمَاوَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية : 13 ].
وعندما نال الإنسانُ تلك المرتبةَ من التشريف، وهذه الدرجةَ من التكريم والتقديم على غيره من المخلوقات، بنصِّ قوله تعالى:{وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِى الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}[الإسراء: 70]؛ كان لزامًا عليه أن يأخذ حظَّه من التكليف بقدر ذلك التشريف؛ إذ قاعدة إدارة هذا الكون - إن صَحَّ التعبير - أن "التكليف بالتشريف"، وأنه كما تميَّز الإنسان بالكثير من المواهب والعطايا، لابد أن يقابله ما يساويه من الواجبات والمسئوليات؛ إذ "الغُنْم بالغُرْم".
ولهذه المعانى كلَّها نزلتِ التكاليف على ذلك الإنسان المُكَرَّم القوى العاقل دون غيره على وجه الأرض، وتوجهت إليه الأوامر ليؤديها والنواهى ليجتنبها، فقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}[العصر: 1- 3].
وحين جاءت الشرائع كلُّها، ومنها شريعة الإسلام، راعت خصائصَ ذلك الإنسان وهى مُدرِكةٌ للمهامِّ المنوطة به لعبادة الله وعمارة الكون وتزكية النفس، ومن ثَمَّ جاء التشريع هو الآخر بخصائصَ تتفق ومُكوَّنات هذا المخلوق الـمُكَلَّف، ومن أهم هذه الخصائص التى تحرص على الإنسان كإنسانٍ:
1- عدم تكليف الإنسان بما لا يقدر عليه، وهو ما نطلق عليه فى أصول الفقه «لا تكليف بما لا يُطاق». وهذا من الحقائق القرآنيَّة العجيبة التى اعتبرت إمكانات هذا الإنسان وأشفقت عليه من تحميله ما لا يُطِيق، فجاء المبدأ القرآنى بذلك، حيث قال سبحانه:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة: 286]، وقال تعالى:{لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق: 7].
وأناط الشرع التكليف بالقدرة والاستطاعة، فقال سبحانه:{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}[التغابن: 16]، ومن ذلك شُرعت القاعدة: «يَسقُط التكليف عند عدم القدرة عليه».
بل حثَّنا القرآنُ الكريم أن ندعو الله عز وجل تعبُّدًا بألا يجعلنا تحت التكليف مع عدم الاستطاعة، فقال سبحانه:{وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}[البقرة: 286].
ولذلك كان من شروط وجوب الفرائض فى الإسلام «القدرة»، حتى فى المسائل والجزئيات تَقَرَّر أنه إذا تعذَّر أمرٌ جاءتِ الرخصة وانتقلنا إلى البدائل، ولو فى العبادات، فمن فَقَدَ الماءَ أو وَجَده ولا يستطيع استعماله لما فيه مِن ضررٍ عليه فيؤلمه أو يؤخِّر شفاءه، انتقل إلى التيمُّم، ومثله إذا لم يستطع أن يُصلِّى قائمًا صلَّى جالسًا بل ونائمًا بحَسَبِ القدرة، وإذا لم يقدر على العبارة والنطق كان بالإشارة، وإذا لم يستطع الصوم أخرج الفدية، وإن لم تُسعِفْه صِحَّتُه للحجِّ وكان قادرًا ماديًّا وَكَّلَ غيره، وإذا حضره الماء العذب واحتاجه للوضوء أو للشرب كان لزامًا عليه أن يدخرَه للشرب.
وهو ما ورد فى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأله الصحابى فقال: يا رسولَ الله، إنا نركب البحر، ونحمل معنا القليلَ من الماء، فإن توضَّأنا به عطشنا، أفنتوضأ به؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» (رواه مالك).
2- مراعاة حاجات الإنسان، الرُّوحيَّة والجسديَّة معًا، فى حالة من الاتساق والانسجام، دون أن يطغى جانبٌ منهما على الآخر؛ إذ هو ليس من قبيل العالم الرُّوحانى (الملائكة) حتى يُهمَل احتياجُه الجسدى والغريزي، وليس كذلك جسدًا بلا رُوح منيرة (الشياطين) فلا يُلتفَت إلى غذائه النفسى والروحي؛ بل هو خَلْقٌ آخر يجمع بين الأمرين؛ لذلك أمره الشرعُ بتلبية غريزة البطن، فقال سبحانه:{وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}[الأعراف: 31]، وحثَّه على قضاء شهوته بطريقةٍ صحيحة، فقال سبحانه:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِى ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم: 21]. وهو ما بيَّنه النبى صلى الله عليه وسلم فى حديثه الموجز البليغ المعجز، حيث قال: «إِنَّ لِرَبِّكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِنَفْسِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَلِأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، فَأَعْطِ كُلَّ ذِى حَقٍّ حَقَّهُ»(رواه البخارى).
وكلُّ تشريع عامٍّ لابد أن يُراعِى هذين الجانبين بالتساوق والاتساق، بحيث لا يهدر أحدهما، وإلا خرج عن قانون البشر وناموس الكون وسنة الله فى خلقه.
3- التعاون والتكامل بين بنى الإنسان، بصرف النظر عن الملة أو الديانة أو المعتقد؛ بل لمجرد أن المتعامِلَ والمتعامَلَ معه من جنس البشر، وهذا كافٍ فى الانسجام والاندماج بين الأفراد فى المجتمعات، وكل هذا يتأتى من خلال «سنة التعارف» التى وردت فى قول الله تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13]. ومن خلال هذا التعارف نصل إلى التعاون، والتعايش، والتكامل، وتجنُّب الصراع والصدام، وقد حثَّنا الشرعُ الكريم على ذلك، فقال سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}[المائدة: 2]؛ بل بهذا التعامل يشعر الإنسان بأخيه الإنسان، رُوحًا، وجسدًا، ونفسًا، وعاطفة وشعورًا، وهو ما رسَّخه النبى صلى الله عليه وسلم حين وجد جنازة تمرُّ أمامه، فوقف لها، فقيل له: يا رسولَ الله، هى جنازة يهودى. فقال: « أَلَيْسَتْ نَفْسًا؟!» (متفق عليه).
إن الحقيقةَ الناصعةَ تقول: «إن الشبيه يميل إلى شبيهه»؛ ولذلك فلا يميل الإنسان إلا إلى أخيه الإنسان، دون النظر إلى الدوائر الأخرى المشتركة بينهما، كالوطن، والدين، واللغة، والمعتقد، وغير ذلك، وإن كانت هذه العوامل مما تزيد الروابط وتُقوِّى الاندماج، ولكن يظل الأصل والقاسم المشترك هو «الإنسانيَّة» التى خاطب الله تعالى بها خلقه جميعًا فى القرآن الكريم، فكم من آيات بدأت بقوله:{يَا بَنِى آدَمَ}، وأخرى افتُتِحَتْ بقوله:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ}.
إن التشريعَ الإسلامى يُرَاعى فى كلِّ أحكامه، بل وعقائده، خصائصَ الإنسان، ولم يَرِدْ تكليفٌ أو وظيفة إلا بما يتفق وهذه الخصائصَ، بحيث إذا نظرنا إلى كلِّ التشريعات سنلمح تلك المراعاة ونقف على «إنسانيَّة الإسلام» فى كلِّ كلياته وجزئياته؛ بل وفرَّق فى بعض الأحكام بين الرجال والنساء وفقًا لخصائص كلٍّ منهما باعتبارهما بشرًا، لتتأكد الحقيقة القرآنيَّة التى شملت الناس جميعًا، حتى الأنبياء منهم، حيث قال الله تعالى عن حبيبه محمد صلى الله عليه وسلم:{قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}[الكهف: 110]؛ أي: متساوون جميعًا فى الإنسانيَّة، والفارق فقط لدى الأنبياء والرسل:{يُوحَى إِلَىَّ}[الكهف: 110].
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة