إذا كان الإسلام هو خاتم الديانات السماويَّة، فإنه من المنطقى والطبيعى أن يكونَ رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم مُرْسلًا إلى كل مَن كان فى عصره مرورًا بالتاريخ كله حتى قيام الساعة.
وقد ورد ذلك صراحة فى قول الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[سبأ: 28]، وقوله سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء: 107].
ولذلك كان الكتاب المُرْسَل به موجَّهًا إلى العالمين وليس المؤمنين وحدهم، وفقًا لقوله عز وجل: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[البقرة: 185].
وبهذا المعنى فقد تقرر لدينا أن كل نبى أو رسول كان مُرسَلا لقومه خاصة، سواءٌ أكان معه كتاب أم جاء بدعوة عامة تقيم حياة الناس فى وقتهم وتحفظ عليهم دينهم لآخرتهم، ومن كان على هذه الشاكلة اتبع كتاب من قبله من الرسل، لتظل الأحكام محفوظة والتعاليم معروفة للأجيال القريبة التى تلى مجىء الرسول أو النبى من السالبقين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما النبى محمد صلى الله عليه وسلم فقد جاء بكتاب مُعجِز ودينٍ خالد وتعاليم عامة وشاملة لتصلح للتطبيق والعمل بها فى كلِّ زمانٍ ومكانٍ وباختلاف الأشخاص والأحوال؛ ولذلك فمن الطبيعى أن يكونَ خطاب هذا الدين للعالمين؛ أى لكل الناس، فمن تقبله ورضى به كان من «أمة الإجابة» ومن لم يقبله لا يُكرَه عليه وكان من «أمة الدعوة»، ودعوته هنا تكون بترديد أحكام وتعاليم هذا الدين التى لا تخالف الفطرة على مسامعه دون إكراه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى بأن تتحمل «أمة الإجابة» مسئوليتها فى الدعوة إلى هذا الدين الذى دانت به من خلال التخلق بأخلاقه وقيمه، وما أنتجته عقائده وعباداته وشعائره فيها من مواطن القدوة، بحيث إذا رآه واطلع عليها أحد من «أمة الدعوة» اعتبر وتفكَّر وشهد لما فى هذا الدين من دعوة إلى الحقِّ والخير والجمال، وهذا ما يؤكده الخطاب القرآنى كثيرًا، بداية من قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب: 21]. وقوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ}[الصف: 2-3]، وقوله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[البقرة: 44].
والناظر فى القرآن الكريم يجد أن الآيات المبدوءة بقوله تعالى: (يا أيها الناس) تخاطب كل الناس (أمة الدعوة)، فترشدهم إلى مطلق الإيمان دون تفاصيل أحكام وتترك لهم المسئولية والاختبار ليعملوا عقولهم فيما يرشدهم إليه فى آياته مثل قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}[البقرة: 21]، أو يوجههم الله إلى حقيقة كونية ليلتفتوا إليها لعلهم يرجعون إليه، ومن ذلك إرشادات إلى وحدة الخلق عسى أن يدركوا وحدة الحق،كما فى قوله سبحانه:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً}[النساء: 1]، ويأتى فى مقام المحاججة بالأدلة المحسوسة والأمثال ليتفكروا وينظروا بمنطق الحواس ثم العقل فيقول عز وجل:{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ۚ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ۖ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ۚ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ}[الحج: 73]، وغير ذلك من الآيات المتعلقة بأمة الدعوة، دون جبر أو إكراه واتساقا مع الحقيقة القرآنيَّة :{ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}[البقرة: 256].
وينسحب الحكم نفسه على الآيات التى بدأ صدرها بقوله تعالى: (يا بنى آدم)، وكذلك الأحاديث النبوية التى خاطب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أمم غير المسلمين حول بلاد الحجاز، وهو ما بدا واضحا وجليا فيما قاله سيدنا جعفر بن أبى طالب للنجاشى ملك الحبشة، حيث قال له: " أَيُّهَا الْمَلِكُ ، كُنَّا قَوْمًا أَهْلَ جَاهِلِيَّةٍ ، نَعْبُدُ الأَصْنَامَ ، وَنَأْكُلُ الْمَيْتَةَ ، وَنَأْتِى الْفَوَاحِشَ ، وَنَقْطَعُ الأَرْحَامَ ، وَنُسِيءُ الْجِوَارَ ، وَيَأْكُلُ الْقَوِى مِنَّا الضَّعِيفَ ، وَكُنَّا عَلَى ذَلِكَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْنَا رَسُولا مِنَّا ، نَعْرِفُ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ وَعَفَافَهُ ، فَدَعَانَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِنُوَحِّدَهُ وَنَعْبُدَهُ ، وَنَخْلَعَ مَا كُنَّا نَعْبُدُ نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ دُونِهِ مِنَ الْحِجَارَةِ وَالأَوْثَانِ ، وَأَمَرَنَا بِصِدْقِ الْحَدِيثِ ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ ، وَحُسْنِ الْجِوَارِ ، وَالْكَفِّ عَنِ الْمَحَارِمِ وَالدِّمَاءِ ، وَنَهَانَا عَنِ الْفُحْشِ ، وَقَوْلِ الزُّورِ ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ ، وَقَذْفِ الْمُحْصَنَةِ ، وَأَمَرَنَا أَنَّ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَلا نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا ، وَأَمَرَنَا بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَالصِّيَامِ ، قَالَ : فَعَدَّدَ عَلَيْهِ أُمُورَ الإِسْلامِ فَصَدَّقْنَاهُ وَآمَنَّا بِهِ وَاتَّبَعْنَاهُ عَلَى مَا جَاءَ بِهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَعَبَدْنَا اللَّهَ وَحْدَهُ فَلَمْ نُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا ، وَحَرَّمْنَا مَا حَرَّمَ عَلَيْنَا وَأَحْلَلْنَا مَا أَحَلَّ لَنَا ، فَعَدَا عَلَيْنَا قَوْمُنَا فَعَذَّبُونَا وَفَتَنُونَا عَنْ دِينِنَا لِيَرُدُّونَا إِلَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ مِنْ عِبَادَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، وَأَنْ نَسْتَحِلَّ مَا كُنَّا نَسْتَحِلُّ مِنَ الْخَبَائِثِ "(رواه ابن إسحاق فى سيرة النبي)، وهو عين ما سأل عنه هرقل عظيم الروم أبا سفيان عن دين الإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما (أمة الإجابة) وهم من دخلوا فى الإسلام طوعا فلهم أحكامهم الخاصة بهم، خاصة فيما يتعلق بالأحكام التكليفية غير الاعتقادية، وهى ما نلحظه فى الآيات الجمة الواردة فى القرآن والمبدوءة بقوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا)، أو بالأعم كل ما ورد من أحكام للمسلمين فى القرآن الكريم وفى السور المدنية على وجه الخصوص.
هذا معيار وتلك تفرقة تغيب عن أذهان بعض المتخصصين، فما الظن بغيرهم ممن يتكلمون فى دين الله بغير علم أو برهان أو قيمة، ومن ثم خلطوا فى الأحكام المتعلقة بالأمتين، وأعطوا ما لهذه لتلك وبالعكس، فوقعوا فى العموميات، أو فى التضييق والتشدد.
فالمتشددون أساءوا الفهم لنصوص الشرع وجعلوا الأحكام الخاصة بأمة الإجابة ملزمة لأمة الدعوة، فش هوا الوجه المشرق السمح للإسلام، ولم يدركوا أن واجبنا نحوهم ليس قتالهم؛ إذ هم مسالمون، وإنما العلاقة معهم الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، ومن خلال منظومة القيم والأخلاق . وأما الطرف المقابل فجعلوا عدم التكليف عند أمة الدعوة ينسحب أيضا على أمة الإجابة، فليفعل من شاء ما شاء دون مراعاة لهوية أو التزام بثوابت. وكلا الفهمين خطأ كبير؛ إذ كان سببا مؤثرا فيما نحن فيه فى بلادنا بل وفى العالم كله .
إن التفرقة بين الأحكام المنوطة بكل أمة من الأمتين يخرجنا عن دائرة التخبط والصراع المقيت؛ بل ويجعلنا نغير العلاقة مع الآخر من دار الحرب ودار السلام إلى: أحكام (أمة الدعوة) وأحكام (أمة الإجابة):{ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ}[العنكبوت: 43].
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة