الحقيقة المرة تقول إن ما يحدث فى المنطقة من تمزق، فضلًا عن وجود كيان إرهابى كبير يدعى "داعش"، يصب بالمقام الأول فى مصلحة الولايات المتحدة وإسرائيل، ومن ثم فإن هذه القوى هى من تقف وراء التنظيم الإرهابى وتمده بالسلاح، وربما هذا ما أكد الرئيس الأمريكى "دونالد ترامب" فى أغسطس الماضى فى أوج منافسته للوصل للبيت الأبيض، حيث اتهم الرئيس السابق "باراك أوباما"بذلك صراحة، كما اتهم منافسته الديمقراطية "هيلارى كلينتكون" بأنها "شريكة فى تأسيس" هذه الجماعة الإرهابية أيضاً ، بل ذهب إلى أن "أوباما" زرع الفوضى فى الشرق الأوسط، مضيفا "إنه مؤسس داعش فى العراق وسوريا"، وكرر "إنه المؤسس! ، أسس الدولة الاسلامية فى العراق وسوريا".
المهم أن " ترامب" المرشح الرئاسى الأمريكى - آنذاك - عن الحزب الجهورى ، وعد بإعداد خطة فى غضون شهر لهزيمة "داعش" فى حال فوزه بالرئاسة ، وقال ترامب الأربعاء 7 سبتمبر2016 إنه فى أول يوم لرئاسته سيطلب من ضباطه الكبار أن يقدموا إلى المكتب البيضاوى خلال 30 يوما "خطة لنصر كامل وسريع على داعش"، مضيفا أن ذلك لا يعنى حربا تقليدية فقط، ولكن أيضا حربا عبر الإنترنت وحربا مالية وحربا أيديولوجية.
ترى هل يمكن أن يصدق "ترامب" فى عهوده وهو قابع فى مكتبه البيضاوي؟ وهل سيبقى العرب يسلطون أنظارهم نحو واشنطن فى انتظار حل سحرى يرفع عن كاهلهم شبح داعش قبل 20 فبراير القادم" موعد انتهاء المهلة"؟، فى وقت تظل فيه مصر بمفردها تخوض حربا شرسة ضد الإرهاب، بعد أن استعصت سيناء على "داعش" و"النصرة" و"بيت المقدس" وغيرها من تلك التنظيمات اللعينة ". أغلب الظن أن العرب سيظلون لايراوحون أماكنهم وهم يستعينون بمن يقف وراء هذا التنظيم ليقضى عليه، الأمر الذى يؤكد إن داعش لن تنتهى ، ونظرا لشكوكى فى وعود ترامب ستظل شوكة فى ظهر العالم العربي، شوكة فى ظهر العراق، وشوكة فى ظهر سوريا وليبيا والعراق، بل إنها ستظل شوكة فى ظهر كل الدول العربية، وهذا ما يريدونه.
إنها نفس اللعبة القديمة التى يوضحها الباحث السياسى "أيمن فايد" فى روايته الكاشفة "عندما يبكى الجبل فى دولة الأحزان"، والتى يروى من خلالها تفاصيل كثيرة ومواقف وشخصيات تكشف ذلك الخيط الرفيع الذى يفصل الحق عن الباطل، وتكشف أيضا حجمنا المتقزم - للأسف - فى صراع توحشت فيه امبراطوريات ودول وبشر فى بحثهم عن مصالحم، فمن خلال أحداث الرواية تبدو أفغانستان مسرحا للصراع الدموي، ولعبة السياسة القذرة بين القطبين الأكبر فى العالم "أمريكا - الاتحاد السوفيتي" عام 1979، من خلال أجهزة المخابرات والعمليات السرية ، والتى على أثرها انطلقت المدافع السوفيتية فى "كابول" فسمع دويها فى بيشاور وجدة والقاهرة والكويت، وعلى أثرها أشعل السوفيت القلق فى الشرق الأوسط الملتهب بالأساس.
تدور الأحداث بأصابع أمريكية لتوريط السوفيت فى المستنقع الأفغاني، وتوريط كل من له مصلحة فى هزيمة الاتحاد السوفيتى العجوز مثل باكستان المنكوبة بالحرب الهندية من جانب، وتخشى أن تكون الدولة التالية التى يخطط الدب الروسى لابتلاعها بعد أفغانستان, ومن ثم فتحت ذراعيها لاستقبال المجاهدين الذين جاءوا من شتى بقاع الأرض لجهاد الروش الشيوعيين.
كان أكبر مورد لهؤلاء المجاهدين هى المملكة العربية السعودية التى تم إقناع حكامها أن السوفيت يخططون لتطويقها عبر قوس يمتد من اليمن الجنوبى الذى يسيطر عليه الشيوعيون فى هذا التاريخ، وأثيوبيا التى يدعم نظامها اليسارى الاتحاد السوفياتى وحتى شمالا فى أفغانستان، وفى مصر كان هناك اقتناع من الرئيس السادات بالتوجهات الاستراتيجية الجديدة نحو المعسكر الغربي، ومقاومة السوفيت الذين يوشكون على الانهيار والتفكك، تلك القناعة التى صرح بها السادات لعدد من المقربين له، هذا علاوة على الكراهية التاريخية التى كان يحملها الرئيس المصرى "السادات" للشيوعيين الروس بالمخالفة لسلفه الرئيس جمال عبد الناصر.
التقت المشاعر الصادقة بالتحرض السياسى والفتاوى الدينية التى تحرض على قتال السوفييت على أرض أفغانستان أنذاك، وهذا ما يعبر عنه بطل القصة بجملة "وحكومتى تزكى خطوتى كونها تبنى سياسة" ووجدت الجماعات الجهادية متنفسا حيويا للتجمع على هذه الأرض، خاصة فى ظل التضييق عليها من جانب حكوماتها فى مصر والبلدان العربية فى أعقاب اغتيال السادات.
تفاصيل الرواية كثيرة ومعقدة، تبدأ من نقطة الانطلاق الأولى لما يسمى بـ"داعش" من قلب أتون المعارك فى أفغانستان نهاية ثمانينيات القرن الماضي، باعتبارها البؤرة الأساسية التى صنعت أمريكا على أرضها كل الجيوش من جماعات العنف والإرهاب التى نراها الآن، وربما قامت "هيلارى كلينتون" بعمل قفزة فى الظلام فى محاولة لتضليلنا فى كتاب مذكراتها " خيارات صعبة " والذى صدر فى 9 أغسطس 2014 " عندما قالت "إن الإدارة الأمريكية قامت بتأسيس تنظيم الدولة الإسلامية فى العراق والشام – داعش - بالاتفاق مع الإخوان لتقسيم منطقة الشرق الأوسط".
إذن يبدو لنا أن الموضوع أقدم بكثير، وبالتالى فإن كلام "كلينتون" الذى لا يقبله العقل والمنطق يأتى على سبيل التمويه ليس إلا، لأن الإخوان كانوا مجرد أحذية فى قدم أمريكا، وهم فى النهاية حكام ولا يحكمون، وقادة ولا يقودون، هى إذن مجرد محاولات لإبعادنا عن الجذر الحقيقى للأزمة الداعشية، حتى نتوه ولا نعرف كيف نزن الأمور بميزانها الصحيح وصولا للحقيقة، بل إن الإخوان ومن على شاكلتهم هم الفرع الرابع من القاعدة المزيفة القشرية - الزائدة الدودية - والتى وكلاؤها الأتراك وقطر، ولكن قيادتهم الحقيقية بيد الولايات المتحدة الأمريكية، وذلك بغية إلصاق تهم الإرهاب والجرائم البشعة للإسلام.
رواية "أيمن فايد" تضع أصابعنا على محاولات أمريكا طوال الوقت الاستفادة من أى موقف وقلب الحقائق لصالح مخططاتها فى المنطقة العربية والشرق الأوسط، تماشيا مع مخطط "مايكل فيكرز" رجل المخابرات الأمريكى وتلميذ بريجينسكى النجيب، وهو الذى وضع أسسه مبكرا لتكوين "داعش" وجعلها رأس الحربة فى المنطقة ، وأن تكون شوكة فى ظهر المسلمين تمهيدا لاستكمال مخططات السيطرة، لقد ظل هذا الرجل من "1976-1986 " فى حالة بحث ودراسة متأنية لتلك الجماعات، وقد تخفى بعد ذلك فى أعمال إدارية إلى أن ظهر مؤخرا مخططه "داعش" فى العراق وسوريا وفى ليبيا واليمن ، محاولا الوصول إلى مصر وتونس والجزائر، وقد ولاه أوباما منصب وكيل وزارة الدفاع الأمريكية، وهذا يشير إلى أنه استفاد من تجربة أفغانستان بحكم وجوده فى هذا مطبخ صناعة العنف، ولأن أستاذه اليهودى "بريجينسكي" الذى غرس فى عقيدته من البداية فكرة أن المسلمين الذين جندناهم لمقارعة الروس سيخرجون لمحاربة الغرب الكافر، فقد بدأ عمله الأساسى إنطلاقا من أفغانستان، ولعل فيلمى "رامبو 1 ورامبو2" اللذين صنعا من وحى أحداث أفغانستان كان مقصودا بها تمجيد بطولة "مايكل فيجرز"، وأساسا هذين الفليمين لم يتم تصويرهما فى أفغانستان، بل فى صحراء النقب فى إسرائيل .
والآن أصبح محتم علينا فى اللحظة الراهنة إيجاد حلول غير تقليدية ، بل حلولا أكثر عبقرية ، بمعنى وجود منهج وميزان يكفلان لنا صناعة استراتيجية جديدة تقوى على مجابهة رأس الحربة الأمريكية فى المنطقة بحلول غير تقليدية ، بعد تمددها يوما تلو الآخر فى محاولة لبسط نفوذها على جناح " داعش " ، ذلك الوهم الذى صنعته الولايات المتحدة، وجعلته رأس حربتها ضد المنطقة بأثرها .