تحت عنوان «الثقافة والقوة الناعمة. حروب أفكار فى السياسة الخارجية»، وضع الباحث نزار الفراوى دراسة خطيرة نشرها «مركز برق للأبحاث والدراسات»، تضمنت العديد من طرح المفاهيم وعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية، التى استخدمت أغلب هذه المفاهيم من هدف وحيد هو الغزو لمصر والعالم العربى بصفة خاصة، والعالم كله بصفة عامة، وإذا كنّا قد تحدثنا فى مقالات سابقة عن علاقة مصر بأمريكا والعالم العربى، وحاولنا جاهدين من خلال الأبحاث والدراسات التى وضعها نخبة متميزة من الباحثين والدارسين، البحث عن إجابة للسؤال الصعب هو: ماذا تريد أمريكا من العالم ومنها مصر والعالم العربى، واليوم يمكن طرح رؤية القوة الناعمة من خلال دراسة الباحث نزار الفراوى، الذى يؤكد أن القوة الناعمة الأمريكية لم تدخل إلى الشرق الأوسط مع مرحلة ما بعد 11/9/2001، لكن المؤكد أن الاهتمام الأمريكى بالمنطقة على هذا المستوى لم يتخذ قبل ذلك أبدا هذا القدر من الانخراط وهذا المستوى من البرمجة والتخطيط واضح الأهداف. بالطبع وجود عدو واضح المعالم ملموس التهديد يحفز عداد ترسانة المواجهة ومداخل الاستهداف، وفى هذه الحالة بالضبط، يتأكد أن الدبلوماسية الثقافية والإعلامية تجاه العالم العربى الإسلامى استمرار طبيعى لمنطق القوة الصلبة من الضغط لتعديل البرامج التعليمية، إلى إنشاء قنوات تليفزيونية وإذاعية متحدثة باسم المصلحة الأمريكية وصولاً إلى تحفيز الإصلاحات فى المجال الثقافى والدينى، وتكثيف برامج البحوث حول الخلفيات الثقافية والدينية للإرهاب الصادر من هذا المجال الجغرافى الحضارى، كلها محاور عمل حددها تشخيص للحالة الاستراتيجية المستجدة غداة تفجيرات 11 سبتمبر.
لم يتعلق الأمر فقط بمحاولة إيجاد جواب عن سؤال «لماذا يكرهوننا؟» الذى طرحه بعض الأمريكيين بسذاجة، ربما وطرحه آخرون باستنكار، لم يتعلق الأمر ببحث القوة العظمى عن عناصر فهم من أجل مواءمة استراتيجياتها المستقبلية أو مراجعة أولوياتها ومواقفها على ضوء وجهات نظر الإنسان العربى المسلم، العكس هو الصحيح، كان المطلوب ولايزال بالنسبة لواشنطن تجفيف المنابع الاقتصادية والفكرية التى تنتج فى نظرها إنسانا كمشروع «جهادى»، مرشحا للانتقال من الحالة الغضبية الناقمة على سياسة ما إلى مناهضتها، وضرب المصالح المرتبطة بها اقتصاديا وسياسيا، وأكثر من ذلك السعى إلى النيل منها بالعنف المادى 28.
غنى عن البيان أن مشاعر مناهضة أمريكا ليست وليدة التدخلات الأمريكية الأخيرة فى المنطقة، بدءاً من حرب العراق الأولى عام 1991. إن ذلك الشطر الشعرى الذى سرى على ألسنة الطلبة والمثقفين العرب من أجيال ما بعد النكسة «أمريكا هى الطاعون والطاعون أمريكا»، يلخص بالبلاغة الشعرية لمحمود درويش حالة الاستياء العارمة من تدخلات أمريكية، لم تأت منها إلا الهزائم والخيبات وتكريس الوضع القائم المتخلف سياسيا وتنمويا وعسكريا.
تحتفظ الذاكرة العربية الإسلامية بدور أمريكا الحاسم فى ترجيح كفة إسرائيل خلال حرب أكتوبر، الذى قوبل باستخدام العرب لسلاح النفط، ودورها التقليدى فى تعزيز أو تنصيب دكتاتوريات شمولية قمعت شعوبها دون أن تمنحهم حظاً من التنمية والعدالة الاجتماعية، ودورها فى احتضان إسرائيل فى سياستها لتأبيد احتلالها للأرض الفلسطينية والأراضى العربية الأخرى، ناهيك عن تقاسم الشباب العربى والنخبة المتعلمة لشعوب العالم، فى أمريكا اللاتينية وآسيا، أساسا غضبا من تدخلات متواترة للإطاحة بأنظمة وطنية أو دعم حكومات يمينية أو عسكرية.
وجاءت الحرب الأولى على العراق التى قادتها أمريكا فى إطار تحالف دولى وعربى 1991 لتؤجج مشاعر مناهضة أمريكا، حين لم تصدق الجماهير العربية أن التدخل تم نصرة للشرعية الدولية، ودليل ذلك استمرار سياسة الكيل بمكيالين ومواصلة إطلاق يد إسرائيل فى التنكيل بالشعب الفلسطينى، وتزايد هذا الغضب مع اشتداد الحصار على العراق وتداعياته الوخيمة على أطفاله وشعبه عموما، ثم احتدمت هذه المشاعر فى العالم العربى والإسلامى خلال الغزو الأمريكى للعراق عام 2003، بدعوى انكشف زيفها سريعا، اسمها الأسلحة العراقية المحرمة دوليا والبرنامج النووى، ناهيك عن فضائح إهانة العراقيين فى سجن أبوغريب وقتل المدنيين فى القرى الأفغانية، كانت محطة فارقة فى علاقة واشنطن بالرأى العام فى هذا المجال الجغرافى الكبير، كان لها ما بعدها، لكن قبل هذا المعطى الميدانى الذى جسدته صورة الدبابة الأمريكية التى تجتاح بلدا عربيا أو الجندى الذى ينصب العلم الأمريكى فى قلب بغداد، لا يمكن إغفال التحولات التى عرفها المنظور الأمريكى للعالم العربى الإسلامى، غداة انهيار القطب السوفيتى، وطى صفحة حرب باردة كونية من أربعة عقود ونصف العقد. هذا السقوط غير المتوقع بسرعته وطريقته، حرك صناع القرار والمرجعيات الاستراتيجية فى واشنطن فى اتجاه البحث عن المرشح للعب الدور، حينها طرحت مقولة «العدو الأخضر» فى إشارة إلى الإسلام، لكن المقولة طورت ضمن نسق فكرى أكثر شمولية مع ظهور نظرية «صدام الحضارات» لصمويل هنتنغتون.
من مقال نشر فى مجلة «فورين أفيرز» الشهيرة، إلى كتاب أكثر تفصيلا، كان هنتنغتون رائدا فى وضع العامل الثقافى على رأس خطوط الانشطار والتدافع الجديدة فى عالم ما بعد الحرب الباردة 29، وبغض النظر عن تأرجح النظرية بين: «واقعية» التشخيص وطابعها التحريضى الأيديولوجى، فإن النظرية كان لها منصتون ومريدون «لعل فى مقدمتهم المحافظون الجدد الذين هيمنوا على إدارة جورج بوش الابن»، وقد نبهت صناع القرار الاستراتيجى الأمريكى إلى مجال جغرافى وحضارى يختزن ثقافيا عناصر التهديد وتحدى الهيمنة، لقد تغلغل هاجس الرهاب الإسلامى شيئا فشيئا إلى العقل الاستراتيجى الأمريكى الذى مضى منطقيا إلى الاستثمار فى البحث والاستشراف حول اتجاهات الرأى ومنظومات القيم ومتابعة التطورات على مستوى مقررات التعليم والممارسة الدينية والإسلام السياسى ودور المرأة وغيرها من القضايا التى ترتبط بشكل وثيق بكيان المواطن العربى المسلم، وخصوصا فى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
وجاءت هجمات 11 سبتمبر لتفتح صفحة جديدة فى علاقات أمريكا بالعرب والمسلمين، لقد ردت أمريكا بالقوة الصلبة عبر غزو أفغانستان وفتح مركز الاعتقال فى جوانتانامو وغزو العراق فى 2003، لكن ماذا بعد؟ «يتبع».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة