أواصل قراءاتى للعلاقات المصرية الأمريكية فى جانبها التاريخى، وذلك استنادا إلى دائرة المعرفة الدولية خلال الألفية الثالثة، فتحت عنوان «الثقافة والقوة الناعمة.. حروب أفكار فى السياسة الخارجية»، وضع الباحث نزار الفراوى دراسة خطيرة نشرها «مركز برق للأبحاث والدراسات».
يرى الباحثان عمر هادى وبيتر سوينغر، أن الاستراتيجية التواصلية التى تنفذها مؤسستا الحرة وإذاعة سوا الإعلاميتان، وغيرهما، صنيعتا مرحلة الأزمة، لا تأخذ بعين الاعتبار تنوع شرائح الرأى العام على مستوى المواقف والأولويات، ويسأل بعض الباحثين عن جوهر مبادئ وآليات وأهداف القوة الناعمة. يحاولون الخروج بها من منطق الحرب الدعائية الوقائية، إلى تصور أكثر تفاعلية يقوم على مراجعة تطال حتى السياسات على الأرض، بحثا عن تفاهم على قاعدة المصالح، لا حرب باردة بين أنانيات جامدة.
يذهب جون واتربورى، الباحث المعروف باهتمامه القديم بمنطقة الشرق الأوسط والسياسة فى العالم الإسلامى، أبعد من السؤال السطحى: لماذا يكرهوننا؟ ليميز بين شريحة قليلة فى العالم الإسلامى منخرطة عقديا فى استهداف الولايات المتحدة والتحريض عليها، وبين الغالبية الساحقة الغاضبة من سياسات واشنطن، وكيلها بمكيالين خصوصا تجاه الصراع الفلسطينى- الإسرائيلى، ودعمها للأنظمة الشمولية. إنها مشاعر قد تجعل بعض المسلمين يتعاطفون مع العمليات المستهدفة لأمريكا، لكنهم فى الأصل لا يعادون قيم أمريكا ومؤسساتها وشعبها، بل يناهضون سياساتها.
يعود واتربورى إلى عام 2002 حين قام معهد غالوب بنشر نتائج استطلاع للرأى ذاع صيته على نطاق واسع، حول صورة أمريكا فى عدد من البلدان العربية. من بين 10 آلاف مستجوب فى تسعة بلدان مسلمة، فإن شريحة المناهضين لأمريكا تراوحت بين %33 بتركيا و%68 بباكستان. هؤلاء وصفوا أمريكا بأنها ظالمة، عدوانية، ومتعجرفة.. لكنها آراء لا تمس الشعب الأمريكى أو مؤسساته، بل الحكومة وسياساتها، فى لبنان ذاته حيث الاستقطاب يكتسى حدة أعلى، بين استطلاع للرأى أن نصف المستجوبين يحبون الشعب الأمريكى، لكن %81 يعارضون حكومة واشنطن.
يسخر واتربورى من التحليلات التى اعتبرت بعد 11 سبتمبر أن أمريكا مستهدفة بالنظر إلى اختياراتها الديمقراطية واقتصادها الحر ورخائها، واصفا إياها بأنها تبسيطية ومريحة لعقل كسول لا يريد أن يبحث عن الحقائق، إنها تحليلات تتغاضى عن كون واشنطن تنكرت مرات لقيمها ذاتها.
معارضا هنتنجتون، يريد واتربورى أن يخرج بالاستقطاب من دائرة صدام القيم والثقافات، إلى أزمة مصالح لا يتم تدبيرها كما ينبغى، وهو يلاحظ أن القيم الغربية مشاطرة على نحو واسع فى العالم العربى الإسلامى، لكن المشكل هو أن القوى المهيمنة لا تبذل مجهودا لفهم مصالح الآخرين.
بالنسبة لهذا الباحث، لا مجال للوهم بأنه يمكن القضاء تماما على نزعات مناهضة أمريكا فى العالم العربى الإسلامى، خصوصا أن هذه النزعات ذات انتشار كونى، وموجودة فى البلدان الأكثر صداقة وقربا من أمريكا، ثمة جوانب طبيعية فى الموضوع، حسب واتربورى، فأمريكا تهيمن على العالم عسكريا واقتصاديا، وهى ليست الأولى فى ذلك. سبقها الرومان، العثمانيون، بريطانيا، والتجربة التاريخية بينت دائما أن الشعوب التى تواجه الهيمنة تستشعر نوعا من النقمة تجاه القوة المهيمنة، وبالتالى فالمشاعر المناهضة لأمريكا فى جزء منها مسألة مفهومة، وفى ذات الوقت، تبدى هذه الشعوب الانبهار والإعجاب بالمؤسسات التى تصنع هذه القوة، إن مؤسسات أمريكا وأنظمتها القضائية ونقاشاتها المفتوحة وأنظمتها التعليمية تجذب حتى الإسلاميين الذين يوفدون أبناءهم للتعلم فى جامعاتها، هذا الإعجاب بالمؤسسات الأمريكية مجال خصب يظل غير مستغل بالشكل الكافى لدى صانع القرار الأمريكى، حسب واتربورى الذى يركز على جاذبية النظام التعليمى كميدان واعد للاستثمار، يكرسه الإقبال الكبير على المدارس والجامعات الأمريكية ذات الصيت القوى.
ويخلص واتربورى إلى ضرورة العمل على عدة جبهات، من أجل تحسين صورة أمريكا أهمها: مراجعة بعض السياسات تجاه المنطقة، خصوصا من حيث دعم الأنظمة الشمولية، ودبلوماسية عامة هجومية لشرح السياسات واستكشاف فرص للتعاون الدولى بشكل يراعى حاجيات ووجهات نظر الطرف الآخر.
فى الوقت الذى تتكرس القناعة بضرورة تعزيز الاستثمار فى القوة الناعمة، وخصوصا فى الدبلوماسية العامة بأبعادها التواصلية والثقافية، من أجل معالجة الصور والتمثلات السلبية حول أمريكا فى العالم العربى الإسلامى، فإنه لا انسجام على ما يبدو فى التصور لمضمون ومبادئ هذا التوجه، إن هذه الدبلوماسية كما تمارس حتى الآن رسائل فى اتجاه واحد، مما ينسف من الأساس مفهوم الدبلوماسية الثقافية بوصفها عملية تبادلية صرفة، تقول وتسمع، تعطى وتأخذ.
إن مفهوم القوة الناعمة لا يتحقق فقط باستخدام وسائل غير عسكرية للحصول على مكاسب من طرف آخر، بل يتعلق الأمر أيضا بغياب الشعور بالجانب الإكراهى والإملائى فى العلاقة، وهو شعور يتقاسمه الجمهور العربى الإسلامى الذى يفهم بسهولة أن الإصلاحات التعليمية والبرامج الإعلامية والتواصلية التى طرحت على الأجندة، تندرج فى إطار ضغط دبلوماسى أقرب إلى منطق الحرب منه إلى منطق السلام، إلى الإخضاع أقرب منه إلى الشراكة، إن غياب هذا العنصر النفسى الإدراكى يجعل «القوة الناعمة» الأمريكية فى السلوك الاستراتيجى للإدارات بواشنطن، «قوة صلبة» رديفة، رهينة المنطق الأمنى الاستراتيجى المحافظ.
ولعل ارتباط هذا الإنزال الأمريكى فى مجال الدبلوماسية العامة تجاه العالم العربى الإسلامى باللحظة الاستراتيجية التى انبثق منها، يضفى على هذا الجانب من الدبلوماسية طابع التصلب و«العنف الرمزى» الذى يعيق دورها الأصلى المتمثل فى تهيئة الأرضية النفسية والبيئة الإدراكية المناسبة لتنفيذ سياسات المصلحة الوطنية وكسب جماهير ونخب مستعدة للانخراط طوعا فى هذه الأهداف.. يتبع
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة