«خطوت بصحبة ماركس.. رأيت تروتسكى يجلس على عرش من ذهب، يرتدى جلبابًا أسود وعمامة مزينة بريشة ذهبية.. تطوف مجموعة بملابس الحداد أنحاء الغابة منشدة أغانى الذنب فى ترك تروتسكى يقتل غدرًا فى حياته الأولى.
تجلد مجموعة أخرى نفسها بالسلاسل على الصدر والظهر، ويضرب آخرون جباههم بالسيوف، وتلطم أخرى الصدور بالكفوف، وتهيل مجموعة التراب فوق أجسادها».. تخيلوا هذا المشهد الغرائبى الذى يرتبط دائمًا فى أذهاننا بالشيعة فى التعبير عن حزنهم لمقتل الحسين بن على، تعاد كتابته ليصبح تروتسكى هو الشهيد الذى خذلته الأمة، وما نراه ليس حلمًا فى رواية «عائلة جادو» لأحمد الفخرانى، لكنه واقع الرواية التى ستجد كل خيالها مقلوبًا رأسًا على عقب، مما يكسر دائرة التوقع لديك، ويفتح أفق الاحتمالات إلى ما لا نهاية.
أراد أحمد الفخرانى أن يكتب رواية تعيد صياغة العالم، وتناقش معرفته الراسخة، أو التى كنا نظنها كذلك، وأن يحاور كل الأدبيات التى استقرت، ظانة أنها تملك تفسيرًا للحياة أو لجزء منها، لذلك قدم عالمًا جديدًا من خلال شخصية «رزق نخنوخ الهوارى» المحمل بأرواح الآخرين، والذى ارتكب كل ذنوب الأرض لكن «مطهره الوحيد» أنه يسعى للخلاص، ومن أجل ذلك يقوم برحلة مرهقة وطويلة وغرائبية وممتلئة بالخيانات، وعندما نصحبه فى رحلته سوف نجد شيئين، أولهما الخيال الجامح الذى لا تحده حدود فى الانتقال من حال إلى الحال، والأمر الثانى الشك فى المعرفة الإنسانية التى تراكمت على مر العصور، والتى كنا نظنها ثابتة كجبل.
الرواية التى تأتى فى 433 صفحة لا تفقد قدرتها التشويقية أبدًا، ولا ينضب خيال أحمد الفخرانى فيها قط، بالطبع سيكون القارئ فى بداية الأمر مندهشًا ومستغربًا من غياب المنطقية التاريخية التى اعتاد عليها فى قراءة الروايات العربية، لكنه بعد صفحات قليلة سوف يتفهم تمامًا الطريقة التى يقصدها الفخرانى، وسيجدها مستساغة وممتعة ومقبولة تمامًا، وكان يظنها غير قابلة للتطبيق.
لا يمكن القول بأن أحمد الفخرانى يحاسب التاريخ الإنسانى الطويل، ليوضح من المخطئ ومن المصيب، لأنه لا يتبنى فكرة الخطأ والصواب، هو يرى أن الأفكار تملك فى داخلها تناقضها المطلق، فالداعى للحرية ينسج حولنا القيود، والصارخ بالمتسامح يختبئ مثل قاتل ينتظر الفرصة للانقضاض علينا.
الرواية رحلة طويلة إلى الفردوس أو إلى الجحيم لا فارق بين الاثنين، فالخلاص لا يهتم بالتفاصيل، وكل كتب العالم وشخصياته الرئيسية تلعب دورًا كبيرًا فى محاولة حل الرموز والطلاسم والأسرار التى نلتقيها، والتى لا يخفف من كابوسيتها سوى شيئين، الأول «الوهم» والثانى «ماركس» الحكيم الذى لا يؤمن بشىء سوى حب «جينى».
يعرف أحمد الفخرانى أن الرواية ثقيلة وغير متوقعة، لذا قصد أن تكون الجمل قصيرة وسريعة، كما قصد أن تكون المشهدية هى الطريقة الأساسية للتعبير، فكل الفقرات قابلة للتخيل، ولأنه يناقش «المعرفة الإنسانية المتراكمة» جاءت الرواية «مثقف
ة»، لدرجة أن الفخرانى قدّم شكرًا فى نهاية الرواية للكتب التى استفاد منها، وهى كثيرة ومتنوعة وأساسية، لكل من يحاول معرفة العالم أو مراقبته.
لذا نقول إن رواية «عائلة جادو» هى كتابة مختلفة، بها جهد كبير، لذا خرجت بالشكل المختلف الذى يليق بالتجربة، وقدمت نمطًا كتابيًا مغايرًا للثابت، ومحاولة للنظر للعالم كوحدة متكاملة، وهو شىء لا يحدث كثيرًا فى الثقافة العربية.