واضعو السياسات الخارجية الأمريكية مصابون فى الأغلب بقصر النظر، الأمر الذى يجعلهم يتعاملون مع العالم باعتباره مناطق يمكن فصلها، والتعامل مع كل منطقة وفق برامج نظرية للاحتواء وتأكيد النفوذ مختلفة عن المناطق الأخرى، رغم أن تقريب العالم ليكون قرية صغيرة عبر ثورة الاتصالات والمعلومات وإسقاط فكرة الحدود السميكة العازلة كان فى الأساس اختراعا أمريكيا من أجل التحكم والسيطرة.
انظروا مثلا لبرنامج الفوضى الخلاقة للمنطقة العربية، الذى دعا إليه فى الأساس المفكر الصهيونى برنارد لويس، وتلقفته بمزيد من التوسع والترويج كونداليزا رايس، مستشارة الأمن القومى ووزيرة الخارجية فى عهد بوش الابن الجمهورى، ليتعهد بتنفيذه أوباما الديمقراطى، الذى بدأ حكمه بالانفتاح على العالم الإسلامى وخطاب جامعة القاهرة الشهير.
هذا البرنامج مصمم للقضاء تماما على كل الدول العربية الإسلامية جنوب وشرق المتوسط عبر إشعالها بالثورات ثم التدخل لتصعيد تيارات متطرفة إلى الحكم فى هذه البلاد مع العمل على تفكيك بنية المجتمعات العربية إلى مكوناتها الطائفية والإثنية وإشعال الحروب الصغيرة بينها لتمتد لسنوات تقضى على تماسك المجتمعات، وتجعل تفتيت هذه البلاد إلى دويلات ضعيفة متناحرة بالدعوات الانفصالية أمرا واقعا لا يمكن الرجوع عنه.
وفى أول رد فعل على برنامج الفوضى الخلاقة، انتشرت العمليات الإرهابية فى أوروبا وأفريقيا، ووصل أمريكا الشمالية وأستراليا، وأصبحت الجماعات، مثل القاعدة وداعش، تطالب بفتح واشنطن ولندن وباريس وإسقاط أوثان الحضارة المادية الغربية الكافرة، كما تحول آلاف المهاجرين واللاجئين فى الغرب كله إلى ذئاب منفردة وقنابل موقوتة تهدد السلم والأمن الغربيين بالفوضى والقتل، الأمر الذى واجهته الحكومات الغربية الداعمة للإرهاب فى المنطقة العربية بالمطالبة بإجراءات عالمية موحدة لمواجهة خطر التطرف والإرهاب، الذى طالها، كما أبدت استعدادها لدفع مليارات اليوروهات والدولارات لمن يستضيف اللاجئين المقيمين على أراضيها.
وانظروا إلى دعوات الانفصال المدعومة غربيا فى معظم البلاد العربية بذريعة حق تقرير المصير والديمقراطية، وكيف وصلت إلى أوروبا والولايات المتحدة نفسها، وكيف صوت الكتالونيون على الانفصال عن إسبانيا فى البرلمان، وفى استفتاء شعبى وبقرار رئاسى، وكيف دعت عدة ولايات أمريكية إلى الانفصال والاستقلال التام عن الحكم الفيدرالى الحالى، ولكن اللافت هو طريقة التعامل الغربى مع دعوات الانفصال هناك، فإسبانيا ووراءها أوروبا والولايات المتحدة ضربت بالديمقراطية عرض الحائط، وألقت حق تقرير المصير فى سلة القمامة، عندما صوت الكتالونيون على الانفصال، بل إنها كررت نفس أسلوب الاتحاد السوفيتى السابق مع المجر، عندما حاولت الانفصال فى الستينيات من القرن الماضى، فيما عرف بربيع براج، ودخلت الدبابات السوفيتية، وسحقت الانفصاليين، وأطاحت بالحكومة ونصبت رئيسا مواليا.
إسبانيا أيضا سحقت الكتالونيين، وقرر رئيس الوزراء الإسبانى حل البرلمان المنتخب، وإقالة الحكومة الشرعية، وتوجيه الادعاء العام الإسبانى لإعداد مذكرة اعتقال للرئيس الكتالونى المنتخب بوصفه متمردا، ليس هذا فقط، بل وتحديد انتخابات جديدة لتشكيل حكومة وبرلمان ورئيس غير انفصاليين فى كتالونيا.. إييييه دنيا!
وللحديث بقية