حينما تحدث الرئيس عبدالفتاح السيسى قبل أكثر من ثلاثة أعوام عن استراتيجية تثبيت الدولة المصرية، لم يكن يقصد الوضع الداخلى فقط، وإنما كان لديه بعداً آخر لا يقل أهمية عن الداخل، وهو كيف يمكن تأمين حدود مصر، أو بمعنى أدق، فقد أدرك الرئيس منذ البداية أن تثبيت الدولة المصرية يبدأ من فلسطين وليبيا وكل الدول العربية، خاصة أننا نعيش وسط منطقة متفجرة ومليئة بالصراعات الشرسة والخلافات فى جميع النواحى، بشكل أثر سلباً على الداخل المصرى.
نجاح الرئيس فى إستراتيجيته يرجع فى الأساس إلى أنه قرأ جيداً الخريطة الإقليمية، وأدرك أنه مالم تلتئم جراح العرب فإن مصر ستظل مهددة فى نسيجها الداخلى، لذلك كان التحرك المصرى نحو الإقليم العربى، ليس بهدف تفجيره كما فعلت دول مارقة تعيش بيننا فى الإقليم، وإنما تحركت مصر بحثاً عن السلام والوئام، الذى سيعود بالنفع على الشعوب العربية بأكملها، ويساعد فى الحفاظ على الأمن القومى العربى.
تبنى الرئيس السيسى إستراتيجية التثبيت من خلال العمل على تنقية الأجواء فى الدول الشقيقة، ومن هنا جاء التحرك المصرى المبكر تجاه ليبيا فى محاولة لجمع الفرقاء على طاولة مفاوضات واحدة، حتى يعودوا إلى اللحمة مرة أخرى، وسارت مصر بالتوازى مع الجهود الدولية فى هذا الاتجاه، وشكلت القاهرة اللجنة الوطنية المعنية بالأزمة الليبية، برئاسة الفريق محمود حجازى رئيس أركان حرب القوات المسلحة، وعقدت اللجنة العديد من اللقاءات مع الفرقاء الليبيين، وتم التوصل إلى مجموعة من الثوابت التى تهدف إلى الحفاظ على وحدة وتماسك الدولة الليبية، وإعادة بناء الدولة من جديد لتكون قادرة على حفظ الأمن ليس فقط فى الداخل وإنما على حدودها، خاصة أن جماعات إرهابية بدعم من دول مثل قطر وتركيا اختارت ليبيا مقراً لها لتكون منطلقاً لتنفيذ عملياتها الإرهابية فى مصر.
وبموازاة العمل السياسى، لمسنا جميعاً التحركات المهمة والإستراتيجية للجيش الوطنى الليبى بقيادة المشير خليفة حفتر، الذى تمكن من فرض سيطرته على معظم أراضى الدولة الليبية ودحر الإرهابيين بعد مساندة ودعم الدولة المصرية له، فضلاً عن أن هذا الجيش يحظى الآن باحترام دول العالم.
وبالتوازى مع الجهد المصرى فى ليبيا، استطاعت القاهرة بصبر وحكمة أن تتوصل إلى تسوية مرضية لجميع الفصائل الفلسطينية، لتنهى مصر قطيعة بين الفلسطينيين دامت سنوات، ولنرى للمرة الأولى منذ سنوات أعضاء حكومة الوفاق يجتمعون فى قطاع غزة، وهو الجهد الذى أداره باقتدار الوزير خالد فوزى، رئيس جهاز المخابرات المصرية، الذى نجح فى لم شمل الفلسطينيين، بعد جولات ولقاءات مكثفة مع الجميع انتهت إلى المشهد الأحتفالى الكبير الذى شهدته غزة يومى الاثنين والثلاثاء الماضيين، وأكد عودة القطاع مجدداً إلى الوطن الفلسطينى والشقيقة الكبرى مصر.
كلنا ندرك حجم التحديات التى واجهت مصر طيلة الأعوام الماضية، بسبب المخاطر التى كانت تأتينا من القطاع، فالأوضاع على الحدود المصرية الفلسطينية من ناحية غزة كانت فى غاية السوء، بعدما اتخذت الجماعات الإرهابية فى سيناء من غزة ظهيرا لها وملاذا آمنا بعد تنفيذ العمليات الإرهابية فى الأراضى المصرية، ومع النجاحات التى حققتها قواتنا المسلحة فى التصدى للإرهابيين فى سيناء، كان من الضرورى البحث عن آلية جديدة لسد الثغرة الموجودة فى القطاع، فتحركتا مصر لكى تعيد غزة إلى حضن الدولة الفلسطينية، وفى نفس الوقت تضمن لا تكون غزة ملاذا أمنا للإرهابيين.
الوجود المصرى القوى والفعال فى الملف الفلسطينى، ورعايتها للمصالحة بين الفصائل وتحديداً فتح وحماس، يعنى تحقيق إستراتيجية الأمن القومى المصرى المتمثلة فى تثبيت الدولة وحصار الإرهاب من المنبع، فضلاً عن تحقيق رغبة الفلسطينيين بإن يعيشوا فى سلام، خاصة أن التحرك المصرى بين الفلسطينيين يتوازى مع تحرك آخر على مسار المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية، انطلاقا من مبادرة الرئيس التى أطلقها قبل عامين فى أسيوط، والتى تبعتها تحركات دبلوماسية مصرية نشطة قادها وزير الخارجية سامح شكرى، وهى التحركات المستمرة فى سبيل الوصول إلى حل يحفظ للفلسطينيين حقوقهم، وفى نفس الوقت يحقق السلام فى المنطقة.
من الشرق والغرب إلى الجنوب، حتى فتحت مصر صفحة جديدة مع السودان، وتغاضت القاهرة عن الكثير من المنغصات السودانية، فى سبيل تحقيق هدف واحد، وهو استقرار جميع الدول العربية، ورغم أن المواقف السودانية تجاه مصر كانت ولا تزال مثار تساؤل، فإن الرئيس السيسى قرر السير فى طريقه مع الخرطوم إلى النهاية، أملاً فى حدوث تغيرات جذرية فى مواقفهم بعد أن يدركوا أن أمن مصر من أمن السودان.
إستراتيجية تثبيت الدولة أيضاً امتدت إلى العلاقات المصرية الخليجية، التى تتميز الآن بالقوة والمتانة، كونها مبنية على الأخوية وعابرة للمصالح ومستقرة، وهو ما ظهر للجميع حينما توافق مصر مع الثلاثى الخليجى «السعودية والإمارات والبحرين» على التصدى لإمارة الإرهاب «قطر»، وفضحها أمام العالم بفضل المساعى المصرية الرامية إلى أمن واستقرار المنطقة العربية.
الشاهد الآن أننا أمام تحركات مصرية مدروسة وجهد مستمر منذ ثلاثة أعوام، هدفه إحداث تحول إستراتيجى فى الوضع الإقليمى، فبدلاً من أن تكون الدول العربية غارقة فى الفوضى، تصبح أكثر استقرارا وأمنا، وهى إستراتيجية استطاعت أن تحمى المنطقة العربية من نار الصراعات، خاصة أنها تتبنى سياسة واضحة تقوم على عدم التدخل فى الشؤون الداخلية للدول، وإنما تعمل على الأخذ بأيدى الراغبين فى السلام، لتعبر بهم مصر إلى بر الأمان، كما حدث على سبيل المثال فى سوريا سواء على المستوى السياسى أو الدعم الإنسانى الذى قدمته ولا تزال تقدمه القاهرة، بناء على دعم وتوجيه دائم من الرئيس السيسى.