نساء مصر أنصفهن الرئيس وحاصرهن تقرير هيئة المفوضين بخصوص وضعهن القضائى وتلاعب بهن أهل السياسة والأحزاب والاقتصاد والإعلام
أجمل ما فى المجتمع المصرى أنه يكذب بلطف، ويخدع بوداعة، ويرسم بمهارة صور معكوسة لواقعه، ولكنه للأسف يلعب دور «الدفاس وأبو دهشوم» فى فيلم العار ويفشل فى تخزين وإخفاء بضاعته غير المشروعة أو المعيوبة، ولذلك تظهر أسراره بسرعة وتتكشف أخطاؤه بالصدفة وتنفجر فضائحه مع الأحداث الكبرى.
فى بداية العام 2017 تم إعلانه عاما للمرأة من قبل رئيس الجمهورية عبد الفتاح السيسى بعد عدة تصريحات مكررة للتأكيد والتوكيد عن دور المرأة المصرية، فى حماية نسيج الوطن والمجتمع فى سنوات فوضى ما بعد الثورة، وكان ذلك تجسيد عن رؤية تتضمن الكثير من الاحترام والتقدير من قبل رئيس الجمهورية للمرأة المصرية ودورها.
وفى محطته الأخيرة يأبى أن يلفظ 2017 أنفاسه الأخيرة إلا بمفاجأة مربكة للمرأة المصرية موثقة بشكل رسمى فى تقرير صادر عن هيئة مفوضى الدائرة الثانية بالمحكمة الإدارية العليا، توصى فيه برفض دعوى تعيين المرأة قاضية بمجلس الدولة، وهو التقرير الذى وصفته صاحبة الطعن أمنية طاهر جاد الله، إحدى المتقدمات لشغل وظيفة «مندوب مساعد» بمجلس الدولة، بأنه غير واضح فى ظل نصوص دستورية تقر مبدأ المساواة.
توصية المفوضين برفض تعيين المرأة قاضية لم يكن الأول، وربما لن يكون الأخير، فقد سبق وأصدرت المجالس الخاصة المتعاقبة، أعلى سلطة إدارية بمجلس الدولة قرارات برفض تعيين المرأة قاضية، ربما كان أشهرها ما حدث فى مارس 2010، ووقتها شهدت الساحة المصرية جدلا يشبه كثيرا ما يحدث الآن بعد صدور توصية هيئة المفوضين، بل يكاد يكون ما يحدث الآن نسخة كربونية، مما حدث قبل 7 سنوات و8 أشهر فى ذات القضية.
من حق المرأة المصرية أن تغضب، ومن حق الجميع أن يطرح أسئلته الاستنكارية والاستفهامية عن رفض تعيين المرأة قاضية فى وطن كرم نسائه بجعله عنوانا وشعارا لعامه الحالى، ولكن التعاطى مع تلك القاضية يحتاج تراجعا بعدة خطوات إلى الخلف حتى تصبح الصورة كاملة، صورة المجتمع الذى يتقدم فيه الآن أهل النخبة والسياسة والعلم والفكر صفوف مناصرة المرأة، بينما هم أنفسهم أو بعضهم إن شئنا الدقة الأكثر استمتاعا بالسقوط فى فخ إلقاء الكذبة والإيمان بها بسرعة البرق؟ وستتعرف أكثر وأكثر كيف يصرح هؤلاء ويصرخون ويهتفون ضد أخطاء هم غرقى فى نتائجها ومحترفون فى ارتكابها؟
فى 2010 انتفضت مصر بنخبتها ومثقفيها ضد قرار عمومية مجلس الدولة الذى رفض تعيين المرأة قاضية، وكتب الكاتبون، وصرخ المثقفون عن مصر التى ترجع إلى الخلف، والمساواة التى ضاعت، والمرأة التى تم اضطهادها، مثلما يحدث الآن نصا وربما كثير ممن شارك فى هذا الجدل سابقا هو نفسه الذى يقوده حاليا، وكأنهم كانوا فى انتظار توصية هيئة المفوضين أو غيرها، لإدراك الواقع الذى رسموه بأيديهم بخصوص ذكورية المجتمع المصرى الذى يتكلم شيوخه عن صوت المرأة الذى يمثل عورة ووجهها الذى يمثل فتنة لا يمحوها سوى النقاب والمكوث خلف جدران البيوت، مجتمع مازال أغلب رجاله مقتنعين أن المرأة للكنس والمطبخ، والكنس والمطبخ للمرأة، مجتمع مازال يفرح حينما يخبره الأطباء أن المولود ذكر، ويكتئب ويسعى لتكرار الإنجاب والزواج حينما يعرف أن المولود أنثى.
نحن نعيش فى مجتمع أدمن ذكوريته حتى لو سعى لتجميل وجهه بالكثير من الاستثناءات والعديد من التصريحات وبعض القرارات المناصرة للمرأة، ونظرة واحدة على المثقفين والإعلاميين والحزبيين والنواب والسياسيين والرياضيين الذين يعلنون استنكارهم لتوصيات مثل التى صدرت برفض تعيين المرأة قاضية تكشف لك عن قبحا فشلت عمليات التجميل المتتالية فى إخفائه.
نبدأ من الإعلام، من أرض الصحافة تحديدا التى لا تخرج صفحاتها ولا مواقعها إلا بموقف واضح وصريح ضد فكرة رفض تعيين المرأة قاضية، انظر إلى تلك الصحف وركز كثيرا مع هيكلها التحريرى والإدارى لترى إلى أى حد وضع المرأة بها متردٍ، دعك من وجود قيادة نسائية أو اثنتين أو ثلاث يتم تعيينهن على استحياء كرؤساء لأقسام غالبا ما تكون خاصة بالمرأة والطبيخ والديكور، ودعك من فكرة أن المؤسسات الصحفية القومية تخصص إصدارا أو اثنين من الإصدارات الجانبية لتقودهما امرأة، دعك من كل هذا، لأنه يدخل تحت بند الاستثناء، أو بند العادة التى جرت بتعيين امرأة أو اثنتين بجانب مسيحى أو ثلاثة على هامش المواقع القيادية فى المؤسسات الصحفية حتى تكون صورة مصر حلوة، دعك من كل هذا وانظر إلى المواقع القيادية، لتكتشف أن الصحف القومية التى هاجمت عمومية مجلس الدولة بقوة وقسوة ولهفة حينما أصدرت قرارها سنة 2010 أو استنكرت توصية هيئة المفوضين فى 201 لم يرأس تحريرها امرأة، رغم أن الصحافة المصرية من عقود حظيت بتجارب نسائية مشرفة، ورغم أن كاتبة صحفية مثل الأستاذة سناء البيسى التى قادت مجلة نصف الدنيا إلى حيث النجاح والشهرة ومواقع التأثير كانت تستحق أن تكون على رأس مؤسسة الأهرام ورئيسة لتحرير إصدارها اليومى أو رئيسة لتحرير الأخبار والجمهورية وروزاليوسف، ولكن ذلك لم يحدث رغم أنها تملك قلما أشهر بكثير من بعض رؤساء تحرير تلك الصحف لدى القراء، وما ينطبق على الصحافة القومية ينطبق أيضا على الصحف الخاصة التى لم يفكر مؤسسوها فى أن يضعوا امرأة على كرسى رئاسة التحرير، ولم يفكر رؤساء تحريرها فى منح امرأة أو أكثر مواقع قيادية فعالة داخل تلك الصحف.
دع الصحافة على جنب، وتعال إلى السلطة التشريعية فى مصر لتكتشف أن كل البرلمانات السابقة لم تفتح المجال أمام تمثيل حقيقى للمرأة المصرية، وكانت الدولة تلجأ لفكرة تعيين نائبات لتحسين الصورة، ثم اخترعت فيما بعد سياسة الكوتة لتجميل الصورة، فى مجلس النواب اختلف الوضع قليلا وشهدت قبة البرلمان تمثيلا أكثر للمرأة، ولكن تعال هنا هل فكر واحد من نواب البرلمان الذين استنكروا على الملأ التمييز ضد المرأة فى أن يجرؤ ويتكلم عن حق المرأة فى أن تصبح رئيسا لمجلس النواب؟!
حتى داخل الحكومات المتعاقبة، لم يختلف الأمر كثيرا ربما حدث بعض التغير فى عهد الرئيس السيسى بسبب دعمه الواضح للمرأة، ولكن العادة التى جرت على تعيين امراة أو اثنتين فى بعض الوزارات اللطيفة ظلت على حالها لسنوات طويلة منذ سبتمبر 1962 تاريخ تعيين السيدة حكمت أبوزيد وزيرة للشؤون الاجتماعية، ولم يحدث مثلا أن تم الكلام عن ترشيح سيدة لرئاسة الوزراء أو أن حصلت سيدة فى مصر على حقيبة وزارية لإحدى الوزارات السيادية، فلم نسمع عن ترشيح امرأة لوزارة الداخلية، أو وزارة الخارجية، بينما فى دول مثل فرنسا وأمريكا تولت المرأة منصب وزير الدفاع ووزير الداخلية ووزير الخارجية، بل إن ثلاثة نساء تعاقبن على وزارة الخارجية الأمريكية التى يسعى العالم لنيل رضاها هن مادلين أولبرايت، وكونداليزا رايس وهيلارى كلينتون.
هل تعرف يا سيدى أن المرأة فى مصر تشكل نصف المجتمع تقريبا أو «48.4%»، وفقًا لتعداد 2017، وتمثل 30% من إجمالى العلماء فى مصر، حيث يتركزن فى العلوم الطبية «58,5%»، والعلوم الطبيعية «7,4%»، والعلوم الزراعية «2,8%»، ورغم ذلك فإننا حتى منتصف 2009 لم يكن لدينا فى مصر سيدة ترأس جامعة، صحيح أن الدكتورة هند حنفى أصبحت أول رئيس جامعة فى مصر بعد أن جلست بقرار رئاسة على كرسى قيادة جامعة الإسكندرية، ولكن الأمر لا يختلف كثيرا عما حدث فى مسألة المرأة والقضاء، رغم وجود الكثير من الكوادر العلمية النسائية القادرة على قيادة جامعات مصر، وبعضهن قدمن تجارب مشرفة حينما تولين منصب العمادة فى بعض الكليات.
الأحزاب التى تسارع بإصدار بيانات الاستنكار دفاعا عن المرأة هى النموذج الأكثر قبحا للتعامل مع المرأة، فلا تجد رئيسة لحزب سياسى إلا فيما ندر، هذا بخلاف أن المناصب القيادية فى أحزاب مصر حتى الصغرى منها تخلو من النساء، هل سيكون لائقا لو ذكرت لكم أيضا أن الشركات العامة والبنوك التى فشل الرجال فى إدارتها والحفاظ على أموالها، بل سرقها بعضهم لم تحظ يوما ما برئيسة امرأة رغم وجود عدد كبير من سيدات الأعمال فى المجتمع المصرى نجحن فى تحقيق شهرة خارجية، وهل سيكون من اللائق أن أخبركم أيضا أن الوسط السينمائى الأكثر انفتاحا مازال حتى الآن مترددا فى منح المرأة دور البطولة المطلقة، ومازال أغلب منتجيه يخشون من الاعتماد على ممثلة كبطلة وحيدة لفيلمه خوفا من الفشل، وبحجة أن الممثلة لن تقوى على حمل فيلم بمفردها، هذه الحجة الجاهزة فى المجال الفنى ستجدها فى السياسة والاقتصاد والصحافة سيروجها كل رافض لفكرة الوجود النسائى على رأس مؤسسة ما، استنادا إلى تجربة ما فاشلة مرة بها، أو حكم مسبق فرضته عليه الثقافة الشعبية، رغم أن بعض النساء نجحن فى أن يوقفن مصر كلها على رجل واحدة، وأن يقلبن موازين الأمور فى ذلك البلد، وفعلن ما لم يفعله الرجال.
هذا هو الوضع على حقيقته فى مصر بالنسبة لوضع المرأة، تطوير كثير وتقدم كثير بفعل حماس الرئيس السيسى للمرأة، ولكن فى الدوائر الأخرى يبقى الوضع كما هو عليه، رموزا وحقوقين يرفضون التمييز ضد المرأة، ويمارسونه هم داخل مؤسساتهم ومصالحهم، بشكل يخبرك بأن العقل الجمعى للنخبة المصرية ما هو إلى ورقة توصية تشبه فى فكرها وقرارها توصية هيئة المفوضين بخصوص وضع المرأة فى مؤسسة القضاء.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة