ليس بإنسان ولا عاقل/ من لا يعى التاريخ فى صدره.. ومن درى أخبار من قبله/ أضاف أعمارا إلى عمره.
هذان البيتان من الشعر العربى، يؤكدان أهمية دراسة وقراءة التاريخ، فليس بعاقل من لا يعى دروس التاريخ فى وطن تاريخه يلتصق بتاريخ الإنسانية على كوكب الأرض، وأن من توقف كثيرا أمام الأحداث والوقائع التاريخية وتعلم واستخرج العبر منها، خاصة السياسيين، سواء الذين فى سدة الحكم أو المتصدرين للشأن العام، فإنه يضيف إلى عمره السياسى أعمارا.
ومن المعلوم بالضرورة أن الإنسان له القدرة على التفاعل الإيجابى مع حركة التاريخ، سواء بالتأثير فيها أو التأثر بها، وهو ما يتفق إلى حد كبير مع ما قاله الشاعر الفرنسى الشهير (بول فاليرى) إن التاريخ أخطر محصول أنتجته كيمياء الفكر.
وبالنظر والتمحيص فى تاريخ مصر منذ عصر الأسرة الفرعونية الأولى وحتى الآن، ومن خلال سرد الوقائع، المدعومة بالنصوص والشواهد التاريخية تقفز حقيقة صارخة تقول، إن ازدهار وتقدم وارتفاع مكانة مصر بين الأمم كان فى عهد الملوك والحكام الأقوياء، وإن تدهورها وانهيارها كان فى عهد الملوك والحكام الضعفاء.
اللافت أيضا أن جميع الملوك والحكام الأقوياء طوال ما يقرب من 5 آلاف و600 عام، كانوا قادة عسكريين، وسنذكر بعضا من هؤلاء الملوك والحكام على سبيل المثال، لا الحصر، ونبدأ بالملك نارمر، الشهير بمينا، مؤسس الأسرة الأولى، تجده ملكا قويا، رفض تشرذم وانقسام مصر، فقرر توحيدها، وكان هناك بعض المستعمرين من شعوب وقبائل آسيوية تعيث فى الأرض فسادا، وتزكى روح الانفصال والتشرذم ما بين الوجه البحرى ونظيره القبلى، فخاض معارك حربية لطردهم، وتوحيد مصر، وهناك معركة شهيرة مسجلة نصا على ما يسمى «صلاية نارمر» تحكى قدرة الملك وانتصاراته على أعدائه من أجل توحيد الوجهين القبلى والبحرى.
واستمر ملوك مصر الأقوياء، بناة الأهرامات طوال الدولة القديمة، وفى الأسرة السادسة، وعقب تولى الملك بيبى الثانى فى سن التاسعة من عمره واستمر فى الحكم قرابة 90 عاما، وكان حاكما ضعيفا، اندلعت ضده ثورة أدخلت مصر فى فوضى ودمار وانقسام استمرت ما يقرب من 150 عاما، وهى الفترة التى أطلق عليها بعض المؤرخين (عصر الاضمحلال الأول) والبعض الآخر أطلق عليها (عصر الظلمات الأول).
استمرت مصر فى حالة الانهيار حتى الدولة الوسطى، عندما جاء الملك القوى «منتحوتب الثانى» أحد أبرز مؤسسى الأسرة الحادية عشرة، وقاد حروبا ضروسا لإعادة أمن وأمان واستقرار مصر، واستطاع توحيد البلاد من جديد بعد عقود طويلة من الانقسام والتشرذم، وتمكن من إخماد كل الثورات التى خرجت ضده لمنعه من توحيد البلاد والنهوض بها، ونجح ببسالة فى إعادة مصر إلى ما كانت عليه فى عصر الدولة القديمة.
وانهارت الدولة الوسطى عقب تولى ملوك وحكام ضعاف، وعاشت مصر عقودا طويلة فى انهيار، وتكالب عليها الأعداء، واحتلها الهكسوس، فيما أطلق على تلك الفترة «عصر الاضمحلال الثانى»، حتى جاء أحمس، الملك الشاب القوى الذى لم يخش قوة الهكسوس، وقرر أن يطردهم من البلاد، ونجح بالفعل فى بسط نفوذه وإعادة مصر للمصريين، وأسس الأسرة الـ18 التى تعد أبرز الأسر الفرعونية المصرية على الإطلاق، حيث دفعت لمصر بالملوك الأقوى والأشهر فى تاريخها، مثل حتشبسوت وتحتمس الثالث وأمنحوتب الثالث، والملكان الأخيران شهدت مصر فى عهدهما تقدما وتطورا ونهضة تنموية، ورخاء، وتوسعات عسكرية، وتقدمًا فى كل المناحى، بما لم يسبق له مثيلا، وخلفهما عهد «الرعامسة»، وهى فترة من تاريخ مصر سميت باسم الرعامسة نسبة إلى من حملوا اسم رمسيس من فراعنة مصر فى الأسرتين 19 و20، واستمروا فى الحكم 225 سنة، بداية من عهد رمسيس الأول وحتى الحادى عشر.
ومر بمصر حكام أقوياء مع دخول الإسلام، من عينة أحمد بن طولون، وجوهر الصقلى، وصلاح الدين الأيوبى، وسيف الدين قطز، والظاهر بيبرس، ثم كانت الكارثة فى سيطرة المماليك واقتتالهم فيما بينهم، وهو ما مكن العثمانيين من احتلال مصر بسهولة ويسر، وأعلن السلطان سليم الأول، عن ضم مصر كولاية تابعة للدولة العثمانية عام 1512 ومنذ ذاك التاريخ دخلت مصر فى عصر الجهل والتخلف والرجعية والخرافات.
وزادت الأطماع الاستعمارية فى مصر، بدءا من الاستعمار الإنجليزى ثم الفرنسى، حتى جاء محمد على، وبحسه العسكرى أدرك أنه لا سبيل لنهضة وتقدم مصر، إلا بتأسيس جيش قوى قادر على حماية مقدرات الوطن ونشر الأمن والاستقرار، ثم بدأ خطة التخلص من كل خصومه المعرقلين لانطلاقة نهضة وتنمية البلاد، وتمكن الرجل من ارتداء عباءة الساحر، لينتشل مصر من عصر التخلف والخرافات، إلى الحداثة والتقدم والازدهار، وبالفعل أصبحت مصر رقما صحيحا فى معادلة التقدم والقوة الإقليمية والدولية، من خلال إقامة المشروعات الكبرى، مثل شق الترع وإقامة القناطر، ومد الطرق والجسور، والاهتمام بالعلم وإرسال البعثات للخارج، وهو سيناريو شبيه بما نشهده الآن، حيث تدرك القيادة السياسية الحالية أنه لا تقدم إلا بإقامة المشروعات القومية الكبرى.
وبعد رحيل محمد على، حاكم مصر القوى وخلفه أبناؤه الضعفاء، تمكن المستعمر الإنجليزى من احتلال مصر، لتدخل البلاد مرحلة جديدة، حتى جاء جمال عبدالناصر، كحاكم قوى، وبدأ فى وضع خطط النهوض وتنمية مصر، ولولا الأخطاء السياسية، لكان لمصر شأن آخر ربما يتفوق إن لم يضاهى كوريا الجنوبية والهند واليابان.
المحصلة أن الحكام الضعفاء، مثل بيبى الأول، وإخناتون وشبيهه فى تاريخنا المعاصر، المعزول محمد مرسى، اللذين يتشابهان فى كل شىء إلى حد التطابق، كانوا وبالا على البلاد، وأن مصر طوال تاريخها العريق والمتجذر، لا تنهض ولا تزدهر وترتفع مكانتها إلا فى عهد الحكام الأقوياء الذى لا يخشون أصواتا ناعقة سواء فى الخارج أو الداخل.