ستظل الولايات المتحدة تبحث عن طرق ووسائل ليس لنشر ديمقراطيتها فى العالم للهيمنة والسيطرة على هذا العالم الذى كان يظن أن دولة أمريكا يمكن أن تغير وتبحث عن أدوار أخرى مثل نشر ثقافة السلام والتعايش ونصرة الضعيف والتصدى لأى مؤامرة تستهدف تدمير العالم ومن أروع ما كتب عن نظرية الهيمنة والسيطرة التى تطبقها أمريكا الآن للاحتلال العالم دون أى خسائر مالية أو بشرية هو ما سطره.
ناعوم تشومسكى المفكر الأمريكى اليهودى المعروف فى كتابه «الهيمنة أم البقاء: سعى أمريكا للسيطرة على العالم» الذى يحلل وبتدرج تاريخى ومنطقى سعى أمريكا للتفوق العالمى، ويتتبع السياسات الأمريكية الحثيثة لتحقيق سيطرة كاملة وشاملة وبأى ثمن، ويبين وبشكل لا يدع مجالاً للشك أن ما تجلّى مؤخراً من سياسة للسيطرة الكونية ابتداء بأحادية القوة إلى تفكيك الاتفاقيات الدولية وانتهاءً بإرهاب الدولة، وتسليح الفضاء يتفق تماماً مع الرغبة الجامحة بالهيمنة التى تتهدد بقاء البشرية وسلامتها.
منذ بدايات العام 2003 والدراسات تشير إلى مخاوف عالمية متزايدة من الولايات المتحدة التى وصلت لدرجة عالية من الهيمنة والسيطرة، بالإضافة إلى عدم ثقة بقيادتها السياسية، غير أنه بالرغم مما تبدو عليه الإدارة الأمريكية الحالية ومخططيها من تطرف فإن برامجها ومناهجها لها جذور فى التاريخ الأمريكى الطامح للسيطرة الكونية، فهناك وفرة فى التاريخ تُظهر استعداد القادة السياسيين للتهديد باللجوء للعنففى وجه مخاطر كارثية محققة، إلا أن الخطر أكبر بكثير اليوم، فالخيار بين البقاء أوالهيمنة لم يكن بهذه الحدة التى نشهدها اليوم.
أعلنت أمريكا فى العام 2002 عن أجندتها الاستراتيجية الكبرى التى صرحت بنية أقوى دولة فى التاريخ الإبقاء على هيمنتها عبر التهديد باستخدام القوة العسكرية.
وفى تلك الأجندة الاستراتيجية الإمبريالية أكدت الولايات المتحدة عزمها على القيام «بحرب وقائية»، وليس حرباً دفاعية.
وهى مختلفة عن الحرب الدفاعية، بل إنها تقع ضمن جرائم الحرب، خاصةً إذا كانت فعلاً تتم وفقاً لـِ«مَنْ جاء دوره»، وهكذا فإن العالم بالتأكيد فى مأزقٍ كبير.
لقد اُستغلت أحداث 11/9 لبناء نموذج سيطرة جديد قام بتفكيك القانون والمؤسسات الدولية ومنح البيت الأبيض السلطة لتجاهل سيادة القانون المحلى، وتم اعتماد تعريف مناسب للإرهاب، فهو ما يراه البيت الأبيض كذلك. وإن كان هذا التبلور ليس بسابقة، فأداء الإدارات الأمريكية المتعاقبة سواء فى أمريكا اللاتينية أو الشرق الأوسط أو أوروبا الشرقية أو شرق آسيا كله يتبع سياسة خارجية واحدة لا علاقة لها بالعدالة واحترام حقوق الإنسان.
ولم تكن السياسة الخارجية وحدها المستفيدة من توظيف أحداث 11/9، بل إن الإدارة استغلت تلك الأحداث وتحت شعار الوطنية والأمن الوطنى وطبقت عدداً منالإجراءات المتطرفة التى فى نهاية المطاف أفادت الأغنياء وأضعفت البرامج الاجتماعية التى تخدم حاجات الأغلبية العظمى وزادت فى انصياع السكان المرعوبين لسيطرة الدولة، ذلك أن تقليص الخدمات الحكومية وتخفيض الضرائب وزيادة الصرف الحكومى على التسليح لم يستفد منه سوى الأغنياء وشركات التكنولوجيا المتقدمة، وهذا السيناريو الذى يوظف الخوف ليس بالشىء الجديد فسياسات ريغان وبوش الأب من قبله التى أسفرت عن وضع اقتصادى متدهور وتفاوت كبير فى توزيع الثروة وتغول أصحاب رؤوس الأموال جعل تلك الإدارات أيضاً تلجأ إلى اختراع الأعداء والحروب الواحد تلو الآخر مرة على الساحة الخارجية «كالحرب فى أمريكا اللاتينية» ومرة على الساحة الداخلية «كالحرب على المخدرات والمتشردين»، وذلك لإبقاء الدعم الشعبى وراء الإدارة وشغله عن المهم.
إشكالية السيطرة
مع تراجع الدور البريطانى فى الشرق الأوسط والتدخل الأمريكى لاستلام ذلك الدور، كانت السياسة الأمريكية بحاجة إلى دولة دخيلة تعمل كشرطة محلية وتحفظ المكتسبات الاستراتيجية الأمريكية فى المنطقة. وهكذا أصبحت إسرائيل مع استمرار الدعم لها وباستثناء ترسانتها النووية من الحظر والتفتيش أكبر قوة عسكرية فى المنطقة، فإسرائيل عبارة عن قاعدة عسكرية وتكنولوجية لأمريكا، فعصب الاقتصادفيها مرتبط بنظام عسكرى تكنولوجى ذو علاقة قوية بالاقتصاد الأمريكى.
وهذا يفسر تحول الموقف الأمريكى فيما يتعلق بسياسات إسرائيل فى الأراضى المحتلة وما تمارسه من إرهاب ضد السكان، إذ انتقل من تبنى وجوب تطبيق المواثيق الدولية فى الأراضى المحتلة إلى الامتناع عن التصويت، كما إبان عهد كلينتون إلى تجاهل تلك المواثيق تماماً والاستخفاف بها كما فى عهد بوش الابن.
شهدت السنوات الأخيرة فى القرن الماضى سجلاً من الإرهاب نفذ بدعم من القوة العظمى وحلفائها، والسبب بسيط، فيمكن الحصول على العديد من الفوائد كالمال والخيرات المحروم منها الضعفاء، ومن ذلك المساعدات التى تلقتها نيكاراغوا وتركيا وكولومبيا والسلفادور لقمع مواطنيها، وهى حالات تعتبرها الولايات المتحدة ناجحة بالرغم من الدمار الاقتصادى والسياسى والاجتماعى الذى ألحقته السياسات الأمريكية بها، بل إن أمريكا تريد تكرار هذا «النجاح» فى الشرق الأوسط عبر الحملة المحمومة نحو «الديمقراطية». يتبع.