التاريخ هو الوحيد، الذى لديه القدرة للإجابة على ما يدور فى عقولنا من أسئلة خاصة بسد النهضة، وحصة مصر المائية، فمن خلال رصد كل هذه الوقائع والاتفاقيات التاريخية، التى تناولتها طيلة الأيام الثلاثة الماضية، يتأكد لنا بما لا يدع مجالًا للشك الحقوق المصرية فى مياه النيل، نحن أصحاب حق، لذلك فنحن بحاجة لضبط النفس، وعدم التعامل مع الأزمة بمنطق الانفعال، خاصة أن آليات التعامل أمامنا واضحة وحددها القانون الدولى، وهى كفيلة بحفظ حقوقنا، أخذًا فى الاعتبار أن مصر تنظر للتعامل مع إثيوبيا باعتبارها دولة شقيقة، وأنها لا تريد أن تقف ضد رغبتها فى التنمية، وفى نفس الوقت تنتظر من أشقائنا هناك أن ينظروا بعين الاعتبار لمصالحنا.
أزمة سد النهضة أو مياه النيل هى فى الأساس ملف قانونى سياسى، ولا يجب أن يكون محلا لتفسيرات أو تأويلات أخرى، يمكن أن تضر بموقفنا حال طرحها للنقاش، حتى ولو من باب سد الثغرات، نعم القلق حيال أزمة سد النهضة مشروع وطبيعى، لأننا نتحدث عن قضية الأمن المائى المصرى، أكد عليه الرئيس عبدالفتاح السيسى أكثر من مرة، آخرها السبت الماضى فى كفر الشيخ، حينما قال «مية مصر موضوع مافيش فيه كلام، وأنا بطمنكوا ماحدش يقدر يمس مية مصر»، موضحًا حديثه بقوله: «اتكلمنا مع أشقائنا فى إثيوبيا والسودان على 3 عناصر، منها عنصر عدم المساس بالمياه، وبنقول إن إحنا متفهمين للتنمية، لكن قدام التنمية دى مية حياة أو موت لشعب، ومية ربنا اللى خلقها ما حدش تانى عملها، بقالها آلاف السنين أنا عاوز اطمنكوا».
نعم هو قضية أمن قومى، لكن لا يجب أن نبالغ فى القلق، ولا أن نقلل منه، فالتوازن هو المطلوب حاليًا ونحن نتعامل مع هذا الملف، لأننا فى الأساس نعمل من خلال أطر واضحة، ولا تمس أحدا، فسد النهضة هو فرع من فروع متعددة للتعاون مع إثيوبيا، التى تربطنا بها علاقات تاريخية وممتدة عبر آلاف السنين، والقاهرة اختارت أن تتعاون مع أديس أبابا لكى نصل معًا إلى حل مرض للطرفين فى قضية سد النهضة، ولاسيما أن 85% من المياه، التى تصل مصر هى من الهضبة الإثيوبية، لذك قررت مصر الاستمرار فى المسار الفنى الخاص بالتعاون الثلاثى بين مصر والسودان وإثيوبيا، الذى يواجه الآن عثرة حقيقية ناتجة عن التفاصيل الفنية، لكن لا يجب أن نغلق هذا الملف، بل نستمر فيه، مع إيماننا بأن وجود قدر من المرونة من الجانب الإثيوبى سيصل بنا على النتيجة، التى نسعى لها جميعًا، خاصة أن الإطار الفنى محكوم بآراء فريق من الخبراء الدوليين المحايدين.
ولا ننسى أن الخلافات ليست وليدة اليوم، فقد حدثت خلافات وعدم اتفاق لمدة عام كامل حول اختيار المكتب الاستشارى، وكان هناك إصرار وحرص من إثيوبيا على اختيار هذا المكتب بالتحديد وتجاوبت مصر مع ما طرحته أديس أبابا، لأن مصر فى نهاية المطاف راغبة فى إتمام الدراسات فى أسرع وقت، وبالتالى فإن الحوار الدبلوماسى والسياسى هو القادر على أن يأخذ بأيدينا إلى بر الأمان.
شخصيًا أقدر الرأى، الذى يقول إن إثيوبيا تلعب دومًا على عنصر الوقت فى المفاوضات، حتى تكمل بناء السد، وتقوم بعملية ملء البحيرة، التى تعد نقطة الخلاف الجوهرية بيننا وبينهم، حول مواعيد الملء، لكن فى نفس الوقت أؤمن بأن الدولة المصرية لديها إدراك شديد لأهمية عنصر الوقت، وأن هناك العديد من الرسائل وصلت إلى جانب الإثيوبى حول هذا الأمر، وأن أديس أبابا تدرك جيدًا أن هذه الرسائل تعبر عن الموقف المصرى القوى تجاه قضية السد، وأن القاهرة حينما تتحدث معها عن أطر وأزمنة معينة ونسب محددة للملء فإنها لا تقبل الخروج عنها مهما كلفها الأمر.
هذه الرسائل تتسق أيضًا مع قنوات الاتصال المفتوحة مع إثيوبيا، فهناك اتصالات على مستوى وزارات الخارجية وزيارات يتم الإعداد لها لرئيس الوزراء الإثيوبى للمشاركة فى اللجنة العليا المشتركة، التى تعقد على مستوى القيادة السياسية فى مصر مع الرئيس عبدالفتاح السيسى، ربما فى شهر ديسمبر المقبل، وأتصور فى هذه المناسبات ستشهد الكثير من المكاشفة المطلوبة مع الأشقاء الإثيوبيين، الذين يدركون خطورة الموقف الحالى، وأنه لا بديل عن الالتزام بنتائج الدراسات الفنية وما ستوصى به هذه الدراسات، لأنه بناء عليها سيتم إبرام اتفاق خاص بالملء والتشغيل وإذا لم تلتزم دولة فيعد خرقا لهذا الاتفاق.
بالتأكيد الدولة المصرية ومؤسساتها لديها التقييم الكامل للملف، ولديها أيضًا القدرة على إدارة الملف بالشكل، الذى يحافظ على حقوقنا، وفى نفس الوقت الحفاظ على علاقات طيبة مع الجميع.