ربما تكون المعارك التى يخترعها «التوك شو» حول التاريخ والشخصيات السياسية والمراحل مناسبة للتأكيد على أننا غائبون عن مجال الأفلام الوثائقية، التى تمثل رهانا على بناء وعى الأجيال القادمة، لكون الوثائقيات المرئية والمسموعة أسهل وأعمق تأثيرا، خاصة فى عصر تتكاثر فيه المعلومات وترتبك فيه المعرفة، ما لم يكن هناك وعى تبنيه الثقافة، وضربنا أمثلة بالوثائقيات التى نغيب عنها، وبالرغم من وجود مشروعات واستثمارات فى الإعلام فإن التركيز على البرامج الخفيفة والمنوعات، بينما نترك هذا المجال لقنوات ومنتجين فى الخارج يقدم كل منهم الوثائقيات عن تاريخنا من وجهة نظره، وحسب أهداف لم تعد تخفى، فى ظل استقطاب واسع.
وضربنا أمثلة بالوثائقيات التى تنتجها قناة الجزيرة عن مراحل مصر السياسية التاريخية المعاصرة أو الحديثة والقادمة، حيث تزدحم قنوات يوتيوب بعشرات الوثائقيات عن السادات وعبدالناصر وفترات حكمهما، أو عن مراحل مصر التاريخية، وبالطبع فإن منتج هذه الوثائقيات يقدمها من وجهة نظره التى قد لا تخلو من انحياز.
بالطبع لا يمكن أن نلوم الآخرين على أنهم يقدمون هذه الوثائقيات، ونختلف أو نتفق مع ما تعرضه، لكن الأهم هو أننا يفترض أن نسعى لتقديم الأشخاص والمراحل التاريخية من زوايا متعددة، وليس الهدف هو إنتاج أفلام دعائية لكن أن نقدمها بزواياها، حفظا لذاكرة التاريخ والأجيال التى تأتى وقد لا تجد إلا وجهات نظر منحازة أو متعصبة، تحاول نفى أى ميزة، وتمارس عمليات تسخيف أو تقليل من الواقع السياسى.
لكن علينا أيضا أن نعترف أن اهتمام قنوات أجنبية أو عربية بالشأن المصرى سياسيا وتاريخيا، سببه أهمية الجغرافيا والتاريخ فى هذا الإقليم، ومهما كان موقع الدور المصرى، فإن القاهرة ما تزال صاحبة تأثير أساسى فى السياسة والدراما وما يسمى القوة الناعمة، ومن دون إنكار إنتاج الدول العربية مثلا من السينما والدراما التليفزيونية والكتاب، تظل مصر الأكثر إنتاجا، مع تراجع فى الكم والكيف خلال العقد الأخير. يضاف إلى ذلك ثراء وغنى التاريخ السياسى المصرى، ووقائعه وحجم التأثير المصرى الإقليمى والأفريقى. وكل هذا يجعل مصر موضوعا ساخنا طوال الوقت، وبالتالى لا يمكن لوم من يعملون على وثائقيات أو برامج تعالج هذا الواقع، وتسعى لتحليله.
أما مواجهة ما تقدمه هذه الوثائقيات والبرامج، من حذف وإضافة وتلاعب احترافى، فلا تتم بالكلام، لكن بتقديم إنتاج فنى وثائقى يتضمن المواصفات ويطبق القواعد الموضوعية، حتى لو كان بوجهات نظر متعددة، لكنه سيقوم على قراءة الوثائق وحفظها فى ذاكرة مرئية تمثل تأثيرا أقوى، من دون تجاهل دور الكتاب والقراءة.
مع الأخذ فى الاعتبار أن الاستقطاب السياسى وتسييد النميمة، والتعامل بخفة مع التاريخ، هو جزء من عيوب الانحياز السياسى، وللحقيقة فإن حاصل جمع الشهادات المنحازة عداءً أو تأييدًا يجعل من الصعب التعامل مع التاريخ والسياسة باعتبارها حلقات متصلة، بصرف النظر عن الموقف المؤيد أو المعارض للشخص أو المرحلة، وليس الهدف من الدعوة للنظر إلى الوثائقيات هو تقديم السياسى أو الرئيس على أنه ملاك أو شيطان، بل إنسان يخطئ ويصيب، فضلا عن تحليل قد يفيد فى فهم الوقائع فى سياقاتها، وهى صفة تكاد تكون غائبة فى نقاشاتنا، والاستقطاب إلى يسار ويمين على طريقة الألتراس، حيث لا مجال لغير الأبيض والأسود، بينما المهم هو إنتاج يحفظ للأجيال ذاكرتها من دون تهوين أو تهويل، فالتاريخ أهم من أن يترك لـ«التوك شو».