أسعدت الملايين بفنّها الراقى، رغم أنها لم تكن سعيدة بحياة الفن، بعدما باتت نفسها تهفو إلى الراحة، فبعدما حقّقت المجد والشهرة والثراء، كانت تبحث عن راحة القلب، عن لحظات من الطمأنينة، تلك اللحظات التى تخلد فيها إلى نفسها، تحاسبها قبل أن تتجه إلى الله، كانت تهفو إلى أن تسير فى الشارع بحرية، وأن تتصرف مثلما يتصرف الناس العاديون فى حياتهم، بل كان غاية أملها أن تكون المواطنة البسيطة العادية مثل بقية البشر، ربما دفع هذا كله "شادية" إلى اختزال حياتها الفنية بكاملها بجملة بسيطة، لكنها تحمل كل ما تريد قوله: "لم أجنِ طيلة حياتى سوى الشك والريبة... وآن الأوان لأن أبحث عن الحقيقة" .. رحلة طويلة بين البداية وصولاً إلى هذه المحطة، غير أن شادية أرادت قبل أن تستقبل حياة جديدة كإنسانة وكفنانة، أن تستعرض أمام عينيها شريط الذكريات الطويل الذى مر بسرعة خاطفة، حتى وصل بها إلى هذا المكان الذى قد تحسم فيه أمورا كثيرة فى حياتها الجديدة بعد اعتزال الفن نهائيا وبلا رجعة قبل أكثر من ثلاثين عاما.
لقد رسخ فى عقل "فاطمة شاكر" أو "فتوش" - كما كانت تحب أن تدعى - شكل الجنة عبر ما تراه أمامها من جمال الطبيعة وبكارتها اللافتة، حيث امتلأ قلبها بصفاء تلك الطبيعة وحبها، واكتسب صوتها نعومة خاصة من محاولة تقليد زقزقة العصافير، بل اكتسبت منها شقاوتها فى التنقل من شجرة إلى أخرى، لدرجة أنها فى سن مبكرة اعتادت أن تتسلق أشجار حدائق أنشاص- التى عاشت على أرضها فترة من الزمن - فى محاولة لتقليد حرية العصافير فى التنقل والطيران، فلم تكن شادية مجرد مطربة فحسب، بل كانت فنّانة شاملة ولديها الكثير من المواهب التى لا يمكن حصرها، لذا كانت وستظل أسطورة فنية وغنائية لم تتكرر، ولربما لعشرات السنين سيظل محبو الغناء النظيف يرددون آهات اللوعة والأسى مع نوعية شجية من الغناء الجميل, والتى تمثل باقة الزهور الجميلة من أغنيات شادية لتشكل فى النهاية جزءا من تراث متنوع تم انتقاؤها من حديقة غنائها العطرة، يحرج من كان يريد أن يقتنصها ويتلمسها فشراؤها كان صعبا للغاية، بل يكاد يكون مستحيلا لأن كل زهورها وورودها ملك الشعب العربى، وعلينا فقط أن نظل نستنشق رحيقها فى زمن كثر فيه الغث والسمين، وهو ما جعل بعض كبار النقاد يعتبرون شادية ظاهرة الغناء والتمثيل معا فى القرن العشرين إجادة وقبولا ما رشحها اكثر من مرة للحصول على جائزة الدولة التقديرية بجانب العديد من جوائز الغناء والتمثيل التى حصلت عليها، فهى صاحبة النصيب الأكبر والأجمل من الغناء الوطنى.
لقد حمل الشريط الغنائى لشادية "ملكة الأغنية الوطنية" بجدارة وامتياز مجموعة من الأغنيات الرائعة مجموعة من شدو الخمسينيات والستينيات والسبعينيات وحتى الثمانينيات، حيث كانت البداية مع دعاء "اللهم اقبل دعايا" من كلمات عبدالوهاب محمد وألحان الموسيقار الراحل بليغ حمدى والذى كون معها ثنائيا رائعا فى فترات عديدة، فمن منا لا يتذكر شدو شادية الجميل وألحان عبقرى الموسيقى المصرى "بليغ حمدي" فى أغنيات "مكسوفة، خدنى معاك، قولوا لعين الشمس، وخلاص مسافر" وغير ذلك من أغنيات جميلة، فضلا عن أغنية وطنية رائعة حملت عنوان "ادخلوها سالمين" وكان هذا اللقاء آخر غناء وطنى لشادية قبيل اعتزالها, وقد شهد تاريخ الغناء الوطنى لقاء الثلاثى الرائع شادية، بليغ حمدى ومحمد حمزة فى أغنية "يا حبيبتى يا مصر" التى أصبحت الأغنية الوطنية الأشهر والأحب للجماهير المصرية منذ قرابة ثلاثين سنة.
شادية على مدى مشوارها مع الغناء الوطنى كان غناؤها منصبا فى حب الوطن ذاته, لهذا كان فنها وغناءها الوطنى "أقوى من الزمن" وعاش واستمر حتى وصل للجيل الجديد الذى تغنى بروائعها الوطنية طوال الأعوام الماضية وحتى يومنا الحالى فى الميادين والشوارع والحارات وأكثرهم رائعتها' يا حبيبتى يا مصر' والتى أصبحت الأغنية الوطنية الأشهر والأقرب لوجدان الجماهير المصرية منذ قرابة ثلاثين عاما, وربما كان هذا هو السبب الآخر فى استمرار فنها، فقد استطاعت أن تعبر عن مشاعر الجماهير على امتداد أكثر من جيل, لأنها أدركت بحكم ثقافتها وموهوبتها أن الفنان الناجح الصادق صاحب الجماهيرية الكبيرة يتحول بعد فترة من الزمن إلى نموذج وإلى رمز, رمز لكل ما هو جميل وباق ومحبوب ومستمر فى بلده.
أما على مستوى التصنيف الغربى للأصوات النسائيّة، يعتبر صوت شادية الرفيع "سوبرانو"، وهو يتّسم بخفّة تلائم الأغانى الاستعراضية، أو تلك التى لا تتطلب كثير من الزخرفة الغنائيّة أو المدى الصوتى المتّسع، حتّى أنّه تم توصيفه بأنه صوت مرح، مبهج يغلب عليه الأداء أكثر من الطرب، إنه صوت يمكن تعريفه بـ "التامبر" والذى يشير إلى المقدرة على تحديد الإحساس السمعى، بحيث يستطيع المستمع تحديد صوتين على أنهما مختلفين على الرغم من تقديمهما بشكل متشابه، من حيث الحدة وجهارة الصوت، ويُقصد بذلك أن الصوت يتكوّن من عدة تردّدات تتغيّر حسب مصدر الصوت ذاته، حتى فى حالة إصدار نفس النغمات،و يمكن اعتبار صوت "شادية" من أكثر النماذج المثيرة فى هذا الاتجاه، لقدرتها الاستثنائيّة على إعادة تشكيل صوتها من دون تغييره بشكل حقيقى، إذ ظلت صوتها "سوبرانو" حتى وقت اعتزالها الغناء ١٩٨٤، الأمر الذى يتضح من خلال تتبع التسلسل الزمنى لمسيرتها الغنائية.
على مدار40 عاماً قدمت شادية 115 فيلما ستظل هذه الأفلام شاهدة على براعتها وموهبتها ونجوميتها وتألقها وحضورها، كما أنها قدمت ما يزيد عن 500 أغنية منها 300 أغنية سينمائية ملئت وجداننا بالشجن من خلال صوتها العزب الصافى، ومن خلال هذا النضج الفنى الشديد والتنوع الرائع لأدوارها، لا بد أن نشير هنا إلى أنها ورغم هذه الأفلام الجادة الرائعة الذى عالجت قضايا اجتماعية وسياسية بالغة الخطورة والحساسية، إلا أنها ومن خلال مقدرة وجرأة هائلة نراها خلال هذه الحقبة تقدم الكوميديا من خلال عد من الأفلام التى تعد من أروع الأفلام الكوميدية فى السينما المصرية نذكر منها "الزوجة 13 عام 1963- مراتى مدير عام- كرامة زوجتى 1967-عفريت مراتى 1968- نص ساعة جواز 1969" هذه الأفلام جميعها كانت من إخراج صانع الكوميديا المخرج "فطين عبد الوهاب" وأيضاً شاركها بطولة هذه السلسلة من الأفلام الكوميدية الرائعة الفنان صلاح ذو الفقار باستثناء الفيلم الأول والأخير الذى شاركها بطولتها الفنان والنجم رشدى أباظة وهما "فيلمى الزوجة،13 و نص ساعة جواز".
وفى الملف السينمائى لهذه النجمة الكبيرة نرى إنها لم تكن حريصة على أن تقدم أفلاماً كثيرة بقدر ما تجنح نحو التنوع فى أدوراها ليس من ناحية الحجم، لكن من ناحية الكيف ظلت شادية محافظة على نجوميتها وبريقها من خلال تنوع أدوراها وحرصها على تقديم ادوار الأم فى عدد من أفلامها الأخيرة ومن أهم أفلامها خلال هذه الفترة "نحن لا نزرع الشوك" مع المخرج حسين كمال 1970، "لمسة حنان" مع حلمى رفلة عام 1971، "أضواء المدينة" مع فطين عبد الوهاب1972، "الهارب" مع كمال الشيخ 1974، "إمرأة عاشقة" مع أشرف فهمى 1974، ومعه أيضاً "أمواج بلا شاطئ" عام 1976، ثم "الشك ياحبيبي" عام1979، و"وادى الذكريات" عام 1981 والفيلمان من إخراج بركات، وكان فيلمها الأخير "لا تسألنى من أنا" مع أشرف فهمى عام 1984 واحداً من أهم أفلامها، بل من أكثرها شجناً وعزوبة وقدمته خلال دور وشخصية الأم ببراعة فائقة، وكانت أماً ليسرا وهشام سليم وطارق دسوقى والهام شاهين، ويعتبر هذا الفيلم الرائع خير ختام لهذا المشوار السينمائى الحافل لهذه الفنانة والنجمة القديرة.
ولعل المتتبع لهذا المشوار السينمائى الحافل سيرى أن شادية هى صاحبة أشهر ثنائيات فنية عرفتها السينما المصرية ومنخلال هذه الثنائيات ظلت لسنوات طويلة الورقة الرابحة لصناع السينما ومن نجمات الشباك الأوائل، وكان الثنائى الأول فى مشوارها السينمائى مع نجم وأسطورة الكوميديا "إسماعيل ياسين"، حيث قدمت معه 18 فيلماً بعضهما كان فى نهاية الأربعينات وطوال حقبة الخمسينات من القرن الماضى، وكان أول أفلامها معاً "صاحبة الملاليم" عام 1949 ثم توالت أفلامها الناجحة مثل "ليلة العيد- البطل- حماتى قنبلة ذرية- قطر الندى- بيت النتاش- الهوا مالوش دوا- قليل البخت- بشرة خير- قدم الخير- مغامرات إسماعيل ياسين- اوعى تفكر- الستات مايعرفوش يكدبوا- اللص الشريف- ألحقونى بالمأذون- أنسى الدنيا ماتقولش لحد" أما الثنائى السينمائى الثانى فى حياة شادية كممثلة فكان مع النجم "عماد حمدي" وقدمت معه 14 فيلماً، وكان أول أفلامهما "معاً مشغول بغيرى- اشكى لمين- اقوى من الحب- شرف البنت- الظلم حرام- ليلة من عمري- ارحم حبي- شاطئ الذكريات، ثم كان الثنائى الثالث لها مع الفنان "شكرى سرحان" وقدما معا عدداً من الأفلام الناجحة وصل إلى 13 فيلماً منها "غضب الوالدين- حياتى أنت- بائعة الخبز- ماليش غيرك- الهاربة- المرأة المجهولة- اللص والكلاب"، كما شكلت أيضاً ثنائياً مع محسن سرحان وقدما 9 أفلام منها "أشكى لمين- بينت الشاطئ- غضب الولدين- ظلمت روحي".
وفى استعراض ثنائياتها السينمائية نرى أنها قدمت مع النجم كمال الشناوى ما يعد من أشهر الثنائيات عبر 16 فيلماً أيضاً تتضمن عددا من الدويتوهات الغنائية الشهيرة ومن أهم أفلامها مع كمال الشناوي" حمامة السلام- فى الهوا سوا- ساعة لقلبك- وداع فى الفجر- الدنيا حلوة- المرأة المجهولة- قلوب العذارى- ظلمونى الناس" وبالتأكيد يذكر جمهور السينما أفلامها الكوميدية التى قدمتها مع الفنان صلاح ذو الفقار فى الستينات وقد كونت معه ثنائيات ناجحة قدما أفلاما من الصعب نسيانها ومنها "عيون سهرانه- أغلى من حياتي- مراتى مدير عام- كرامة زوجتي- عفريت مراتي".
وفى النهاية كانت التجربة الأولى والأخيرة فى تاريخ مشوارها الفني,حين وقفت أمام عمالقة المسرح، ولم تقل عنهم تألقا وامتاعا، بل كانت على قدم وساق معهم كأنها نجمة مسرحية خاضت هذه التجربة مرات ومرات ولم نشعر بفارق بينها وبين عمالقة المسرح الفنان عبد المنعم مدبولى والفنانة سهير البابلى، والذين اقروا بأنهم لم يروا جمهوراً مثل جمهور مسرحية "ريا وسكينة" لأنه كان جمهورها الذى أتى من أجل عيون "قمر الأغنية العربية" التى رحلت عن عالمنا قبل أيام قليلة فى صمت وهدوء يليق بجلال إيمانها العميق النابع من القلب .. رحمها الله رحمة واسعة بقدر عطائها لتراب وطنها الذى أحبته حتى النهاية، فبادلها الجمهور حب بحب وتوجها ملكة على عرش الغناء الوطنى بلامنازع.