فى مذكراته المثيرة للجدل، لا يتحدث الكاتب والمثقف المصرى الكبير "محمد سلماوى" كثيرًا عن نفسه عبر كتابه التى احتل 427 صفحة من القطع الكبير مصحوبة بـ150 صورة من أرشيفه الشخصى والعائلى الخاص جدا، فهو طوال الوقت يتحدث عن الآخرين، أجداده، والده ووالدته، مربياته، أصدقائه، مدرسيه، أساتذته فى الجامعة، ولعل أبرز ما يلاحظه القارئ أن "سلماوى" اهتم أكثر بسرد تاريخ أسرته، فهو ابن باشوات، جده لأبيه "محمد السلماوى بك"، عمدة محلة مالك مركز دسوق بمحافظة كفر الشيخ، وجدته لأبيه هى "بهية هانم رضوان"، وكما يصفها حفيدها فهى سيدة جميلة، قوية المراس، فى عصر لم يكن للمرأة فيه صوت مسموع، وكان شقيقها الأكبر هو عبد المجيد بك رضوان، الذى اشتهر بإنتاج سلالة البطيخ المجيدى، نسبة إلى اسمه.
ولا ينسى "سلماوى" فى سرده لسيرة أسرته أن يمزج بين أحداث مهمة مرت على مصر وهو يسجل أن بيت "رضوان" والد جدته كان لديه عدد من العبيد، فقد عرفت مصر تجارة العبيد حتى أوائل القرن العشرين، مع أن الخديوى إسماعيل ألغاها قبل ذلك بسنوات، ثم فرض عليها سعيد باشا حظرًا رسميًا، لكنها لم تنته عمليًا إلا مع التوقيع على "اتفاقية إلغاء الرق والعبودية" فى جنيف عام 1926، لكن يبدو أن "آل رضوان" كانوا يحسنون معاملة العبيد الذين كانوا لديهم، ولقد آثر الكاتب هنا أن يحتفى بواحد من هؤلاء العبيد، حيث يقول: "أذكر أحد أبناء هؤلاء، واسمه إمام، كان يعمل لفترة سائقًا لدى والدى، ثم أصبح سائقًا بهيئة النقل العام، وكان يأتى إلى جدتى ليقود سيارتها كلما احتاجته، كان إمام فى أواخر العشرينيات من عمره، بشرته سوداء داكنة وملامح وجهه زنجية واضحة، وعندما كنا نذهب فى الأعياد لزيارة جدتى، كنا نجده قد سبقنا، فجاء ليسلم عليها ويقبل يدها".
جد سلماوى لأمه هو "محمد شتا بك"، الذى تزوج من جدته ابنة المهندس "حسن الرشيدى أفندى"، صاحب متاجر الأدوات الصحية الكبرى، وقصة الجد تبدو درامية جدًا، فلم يكن أحد يعرف أن اسمه محمد عبدالملك، كان له إخوة أشقاء كان أكبرهم، هو الشيخ عبدالعزيز عبدالملك، وقد اضطهده إخوته بعد رحيل والديه طمعًا فى نصيبه من الميراث، وكان "سلماوى" يسمع أن إخوة جده وضعوه ذات مرة فى الفرن كى يتخلصوا منه.
ومن بين مآثر "شتا بك" جد سلماوى لأمه أنه عندما قام طلعت حرب بتأسيس "استديو مصر" الذى أنتج أول أفلام أم كلثوم "وداد" عام 1936، قال لصديقه محمد شتا، إن استديو مصر سينتج فيلمًا ثانيًا لأم كلثوم فى العام التالى بعنوان "نشيد الأمل"، فتبرع شتا بك لاستوديو مصر بكامل ميزانية الفيلم الذى أنتج بالفعل عام 1937 إيمانًا منه بالهدف الوطنى الذى كان وراء مشروعات طلعت حرب، وأيضًا حبًا فى أم كلثوم، كما لوحظ آنذاك أن أم كلثوم نفسها كانت ضيفة دائمة فى الحفلات التى كان يقيمها جد سلماوى فى منزله بشارع أمين الرافعى بك بالجيزة، وحين زوج كبرى بناته السيدة زينب والدة سلماوى ذكرت بطاقة الدعوة أنه ستطرب الحضور الآنسة أم كلثوم.
ومن ثم يتضح لنا أن "سلماوى" نشأ فى بيئة محبة للفن والفنانين، وربما كان لذلك أثر واضح فى اتجاهه للأدب، ومنه المسرح على وجه الخصوص، وعرضت أول مسرحياته قبيل حرب يونيو 1967، ومن بعدها كان له عدد من المؤلفات منها: فوت علينا بكرة، اللى بعده 1983 - القاتل خارج السجن 1985- سالومى 1986- اثنين تحت الأرض1987- الجنزير 1992- رقصة سالومى الأخيرة 1999، وقد قام محمد سلماوى بتأسيس مهرجان القاهرة الدولى للمسرح التجريبى عام 1988 وكان أول أمين عام لهذا المهرجان، كما صدرت له مجموعة من المؤلفات القصصية والروائية، أبرزها: الرجل الذى عادت إليه ذاكرته 1983- الخرز الملون 1990- باب التوفيق 1994- وفاء إدريس وقصص فلسطينية أخرى 2000- أجنحة الفراشة 2011، والأخيرة هى التى تنبأت باندلاع ثورة 25 يناير المصرية، فى العام نفسه، الذى شهد ميلاد عمله الإبداعى.
كان سلماوى - بحسب مذكراته – قد انخرط فى العمل السياسى حيث عايش المرحلة الساداتية، وتفاعل مع تقلباتها فكريا وصحفيا وثقافيا ومر بتجربة الاعتقال بعد أحداث مظاهرات الخبز عام 1977 لمدة شهر ونصف الشهر، ووسط ذلك الجو الخانق الذى تلا إعلان الرئيس السادات نيته زيارة القدس فى نوفمبر 1977 - على حد قوله فى مذكراته - تفاقم الوضع السياسى، وازدادت حدة الهجوم على كل ما يمت بصلة لمرحلة المد القومى فى الخمسينيات والستينيات، وصلته دعوة لزيارة الهند فى جولة صحفية تتضمن لقاءات مع كبار المسئولين فى الحكومة، فقبلها على الفور، وسافر هو وزوجته وفى ذهنه أن يعيش فى أجواء الحضارة الهندية العريقة فى سبيل أن يبتعد قليلا عن المناخ السياسى الضاغط فى القاهرة.
وفى أثناء تلك الرحلة أتوقف عند مفارقة كبرى فى حياة سلماوى الأديب الذى قيد له خدمة الناس على حد نبوءة كاهن هندى التقاه فى طريق العودة من أجرا يقول : شاهدت مبنى من بعيد لا أعرف لماذا انجذبت إليه، فسألت عنه المرافق الذى كان معنا، فقال انه معبد قديم، وهو ليس فى برنامج الزيارة، لكن إذا أردت زيارته فلا مانع، وأحسست برغبة فى زيارة هذا المعبد فطلبت من المرافق أن نعرج عليه، وقبل أن ندخل المعبد قال لى المرافق أن على أن أغطى رأسى طالما أننى لست معمّما، ففعلت ذلك بـ "إيشارب" كان مع زوجتى، وحين دخلنا المعبد وجدناه خاليا إلا من ناسك واحد أخذ ينظر إلى لفترة دون أن يتكلم، ثم تركنا ومضى إلى داخل خلوة خلفية عاد منها بعد لحظات حاملا معه وشاحا لونه أصفر قان وقدمه لى ببعض كلمات ترجمها لى المرافق مفادها "أن هذا الوشاح نمنحه فقط لمن نذرته الأقدار لخدمة الناس، وانت قيد لك خدمة أقرانك.
وقف مشدوها أمام هذا الموقف الذى لم يكن يتوقعه من هذا الراهب الذى لا يعرفه، حين تحدث بما لم يكن يتوقعه، وفى طريق العودة الى نيودلهى أخذ يفكر فيما قاله الكاهن، ونظر إلى حياته فلم يجد فيها تلك الخدمة العامة التى يمكن أن تلفت نظر هذا الناسك، لكن يبدو أنه لم يكن يتحدث عما هو كائن، وإنما ما سيكون، ثم نسى هذا الموضوع سنوات طويلة إلى أن ذكرته به زوجتى وأخرجت لى الوشاح الذى كانت قد احتفظت به، بعدما تقلب فى المهام الثقافية، حيث أصبح وكيلا لوزارة الثقافة للعلاقات الخارجية وبالطبع كان هنا معنيا بخدمة بلاده ووضعها على خارطة الثقافة العالمية، وربما تحققت نبوءة الناسك الهندى وتبلورت أكثر عندما صار رئيسا لاتحاد كتاب مصر والعرب حيث حقق إنجازات لم يسبقها إليه أحد قبله ممن تولى هذا المنصب، ناهيك عن مسيرته الصحفية الطويلة فى خدمة أبناء صاحبة الجلالة فى مؤسستى "الأهرام" و"المصرى اليوم" عبر رحلة ممتدة من العطاء.
فى هذه المذكرات يقدم سلماوى بأسلوب سهل وممتع مشاهد شيقة للكثير من التفاصيل غير المعروفة أو المألوفة للقارئ، والشهادات عن الحياة السياسية والتطورات الاجتماعية والثقافية خلال أهم عقود القرن العشرين، وفى سعى حثيث حاول رسم لوحة حية لمصر بعد الحرب العالمية الثانية وحتى استشهاد الرئيس السادات عام 1981، عرج فيها عبر تلك الصفحات على الكثير من الذكريات والأحداث المهمة عن مصر، والعصر الذى عاش فيه، كما بدا فى فصل "مفكرتى الحمراء.. وغرفة الإعدام!" بعدما تم إلقاء القبض على أربعة صحفيين هم "حسين عبد الرازق، وفيليب جلاب، ومحمد سلماوى، ويوسف صبرى"، وصدرت الصحف فى صباح ذلك اليوم، وهو 21 يناير 1977، تحمل أسماءهم فى موضوعاتها الرئيسية، باعتبارهم قادة تلك المظاهرات العارمة التى عمت البلاد من الإسكندرية إلى أسوان، والتى كان يتمنى سلماوى مشاهدتها مثل بقية أفراد الشعب، لكن القدر لم يمهله حتى وجد نفسه ماثلا مع أقرانه أمام شاويش سجن القلعة الذى أسموه بـ "المرشال الجابرى".
وهنا يصف المشهد الأول قائلاً: كانت زنزانة التأديب باردة ومظلمة لا إضاءة فيها، ولابد أن اللافتة التى قابلتنا على باب السجن عند وصولنا اتخذت اسمها من هذه الزنزانة، فقد كانت تقول "دار الإصلاح والتقويم"، لكن الجو بداخل الزنزانة كان مرحًا، فقد ظللنا نتسامر فيها حتى ساعة متأخرة من الليل، وكان الشاويش الجابرى يمر علينا كلما تعالت ضحكاتنا، أو علا ضجيجنا، ليطلب منا أن نخفض الصوت حتى لا يسمعنا الضابط.. كان يحمل معه عصا غليظة، كثيرًا ما كان يضعها تحت إبطه وكأنها عصا المارشالية، وقد أصبحنا بعد ذلك نسميه المارشال الجابرى، وكان كلما مر علينا يسألنا إن كنا نريد شيئًا، ثم قبل أن يتركنا كان يسألنا أيضًا إن كان معنا سيجارة، فالسجائر فى السجن هى العملة المتداولة، وكل شىء فى السجن له ثمن يباع به أو يشترى، والعملة دائمًا هى السيجارة، أو علبة السجائر، أو الخرطوشة، حسب الثمن، لذلك لم نكن نبخل على المارشال الجابرى بسيجارة كلما طلب، وهو أيضًا كان يسعى لتلبية طلباتنا كلما استطاع، لكنه كان يحرص فى جميع الأحوال على أن ينهى كلامه معنا بأن يصيح فينا بأعلى صوته "الله يخرب بيوتكم!" وكأنه يريد أن ينفى أمام زملائه وجود أى علاقة طيبة معنا.
ثم يفجر سلماوى المفاجآت المذهلة فى حياته عبر تفاصيل شيقة تصلح أن تكون درسا عمليا للمقبلين على العمل الصحفى فى بداية حياتهم، حين طلب من الراحل الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل أن يرسله إلى أثناء انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة فى خريف عام 1971، فرد عليه هيكل: أولًا لدينا فى نيويورك مراسل "الأهرام" الدائم، "ليفونكشيشيان"، الذى سيغطى الأحداث اليومية لاجتماعات الجمعية العامة. ثانيًا سيذهب حمدى فؤاد ليغطى المناقشات الخاصة بقضية الشرق الأوسط. ثالثًا سيتابع الدكتور كلوفيس مقصود ما يتعلق بالقضية الفلسطينية. رابعًا طلبت من الأستاذ أحمد بهاء الدين أن يذهب هو الآخر ليتابع هذه الدورة بشكل عام ثم يعود ليكتب فيما يختاره. فماذا ستفعل أنت أكثر من ذلك؟
وأمام هذا الاختبار الصعب ركز سلماوى على قضية اختيار السكرتير العام للأمم المتحدة آنذاك "كورت فالدهايم"، وقد ظل يصول ويجول داخل أروقة المنظمة الدولية التى تشبه "عبلة الكبريت" إلى نجح فى إجراء أول حوار للأمين العام الجديد فور إعلان النتيجة مباشرة مع الأهرام، ليحقق سبقا صحفيا على أقرانه من المراسلين والمتابعين لتلك الانتخابات، ويجاوز اختبار "هيكل" الصعب بحنكة وقدرة تصلح أن تكون درسًا عمليًا للعاملين فى مهنة الصحافة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة