أواصل قراءاتى فى الملف الأمريكى وسياسيات البيت الأبيض تجاه دول المنطقة العربية، وتأثير علاقتها الحميمة مع إسرائيل، التى تعد أحد معوقات إقامة علاقات طيبة بين الولايات المتحدة الأمريكية والدول العربية، واليوم اخترنا ما سطره الدكتور كاظم ناصر عن استمرار محاربة أمريكا وإسرائيل للعرب والفلسطينيين فى المناطق الناعمة مثل اليونسكو، وظهر ذلك بعد الانسحاب المريب لها من المنظمة الدولية الذى جاء بسبب الرفض المطلق للمنظمة بالعربدة الصهيونية فى القدس، حيث يقول الدكتور كاظم ناصر: منظّمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة United Nations Educational Scientific and Cultural Organization أو ما يعرف اختصارا «يونسكو UNESCO» تأسست عام 1945 لهدف رئيسى هو المساهمة فى تحقيق السلام والأمن الدولى عن طريق دفع التعاون بين دول العالم فى مجالات التربية والتعليم والثقافة، ودعم الاحترام العالمى للعدالة وسيادة القانون، واحترام الحريات وحقوق الإنسان.
للمنظمة احترامها ونشاطاتها الدولية المنصفة التى تخدم الجميع من خلال 50 مكتبا وعدّة معاهد تدريسيّة حول العالم، وخمسة برامج أساسية هى «التربية والتعليم، والعلوم الطبيعية، والعلوم الاجتماعية والإنسانية والثقافية، والاتصالات والإعلام»، وتساهم فى العديد من المشاريع على مستوى العالم كمحو الأمية، والتدريب التقنى، وبرامج تدريب وتأهيل المعلمين، والمشاريع الثقافية والتاريخية، وتدعم التعاون العالمى للحفاظ على التراث الحضارى وحماية حقوق الإنسان.
ولأن المنظمة حاولت دائما أن تحافظ على مصداقيتها وحيادها وكرّست جهودها لتحقيق القيم الإنسانيّة النبيلة التى أسست لتحقيقها، فإنها كانت مثارا للجدل بشكل واسع منذ تأسيسها، واعتقدت الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض دول الغرب فى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضى، أنّها كانت تتعاطف مع الشيوعيين ودول العالم الثالث وتهاجم سياسات الغرب فى مناطق مختلفة من العالم، فانسحبت الولايات المتحدة الأمريكية منها فى عام 1984 وتبعتها بريطانيا فى عام 1980 لكن بريطانيا عادت للمنظمة فى عام 1997، وتبعتها أمريكا فى عام 2003.
الولايات المتحدة وإسرائيل عملتا ما بوسعيهما لمنع فلسطين من الانضمام للمنظمة، لكن المنظّمة أصدرت قرارا تاريخيا فى 31 تشرين الأول 2011 بقبول عضوية فلسطين كدولة فيها رغم رفض إسرائيل ومعارضة الولايات المتحدة وبريطانيا وبعض الدول الغربية التى رأت أن قبول فلسطين يضر بمصالح إسرائيل، ويمهد الطريق لاعتراف العالم بحقوق شعب فلسطين وبالدولة الفلسطينية فى الأمم المتحدة والمنظمات المتفرعة عنها.
إحدى مهام اليونسكو التى أزعجت إسرائيل وحليفتها أمريكا جدا هى أن المنظمة تعلن قائمة مواقع التراث العالمى، وتعتبرها دلائل تثبت إرث الشعوب وإنجازاتها الحضارية التى قدمتها للعالم، ولهذا فإن إسرائيل التى تعرف جيدا أنها احتلت وطنا لا تراث لها فيه، وتعمل جاهدة على تزوير آثاره وتاريخه وإنكار وجود شعبه، اعتبرت اليونسكو عدوها اللدود الذى يساهم فى كشف اغتصابها لوطن لا تربطها به علاقات تراثية، ويرفض احتلالها، ويفضح ممارساتها العنصرية ومحاولاتها لطمس تراث الشعب الفلسطينى وتزوير تاريخه.
لقد اتخذت المنظمة عددا من القرارات المؤيدة للفلسطينيين من أهمها قرار عام 1968 الذى دعا إسرائيل إلى الامتناع عن إجراء أى حفريات فى القدس أو تغيير لمعالمها، وقرار عام 1974 الذى دعا دول العالم إلى الامتناع عن تقديم أى مساعدات ثقافية أو علمية لإسرائيل بسبب ممارساتها العدوانية ضد الفلسطينيين فى القدس وغيرها من المدن الفلسطينية، وقرار عام 2003 بإرسال بعثة إلى فلسطين لتقييم وضع القدس القديمة فى ظل الاحتلال، وقرارات 2005-2006 التى نصت على الأهمية التاريخية الاستثنائية للقدس القديمة وأسوارها، ووضعتها على لائحة التراث العالمى المهدد بالخطر، وقرار عام 2016 الذى نفى وجود أى ارتباط دينى لليهود بالمسجد الأقصى وحائط البراق، وقرارات 2017 التى اعتبرت القدس مدينة فلسطينية محتلة، ووضعت الخليل والحرم الإبراهيمى على لائحة التراث العالمى.
إن عداء أمريكا وإسرائيل لهذه المنظمة الدولية العريقة ذى المصداقية العالية وللشعب الفلسطينى ليس جديدا أو مفاجئا لأحد، فمنذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض وهو يتّخذ القرار المعادى للفلسطينيين تلو الآخر، لقد تخلت إدارته عن معارضة الإدارات الأمريكية السابقة للاستيطان، وحاولت التأثير سلبا على الدول المؤيدة للحق الفلسطينى فى الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمنظمات الدولية المهمة، وأخيرا أعلنت انسحابها من اليونسكو ليس لأنها «معادية لإسرائيل» كما زعم الرئيس الأمريكى، ولكن لأنها كشفت أكاذيبها!
أمريكا يقودها الآن رجل تنقصه الخبرة السياسية، ويتخبط فى تعامله مع القضايا المحلية والدولية المهمة، ويتوقّع حتى بعض من كانوا مقربين إليه وخدموا فى إدارته ثم استقالوا أو أقيلوا، أنه لن يكمل ولايته كرئيس للولايات المتحدة. إن التطورات الحالية وآخرها انسحاب أمريكا من اليونسكو تشير إلى أن القرارات الأمريكية المتعلقة بفلسطين، وإيران، والمنطقة العربية برمتها يقررها الصهاينة الذين يحتلون البيت الأبيض بالتنسيق مع نتنياهو وحكومته المتطرفة.
إسرائيل انسحبت من المنظمة بعد ساعات من انسحاب أمريكا منها، وأثنى نتنياهو على الخطوة الأمريكية بالقول: «إن القرار الأمريكى شجاع وأخلاقى، لأن المنظمة أصبحت مسرح عبث، وبدلا من الحفاظ على التاريخ فإنها تقوم بتشويهه». إن انسحاب أمريكا من اليونسكو هو دليل على انصياعها للنفوذ الصهيونى وتحيّزها الأعمى الكامل لإسرائيل، وعدم أهليتها لتكون وسيطا بين أطراف النزاع للوصول إلى حل سلمى عادل.. «يتبع».